"الوجود والزمان" لمارتن هايدغر (1927)
السياق التاريخي والأهمية الفلسفية
ظهر "الوجود والزمان" (Sein und Zeit) في فترة مضطربة من تاريخ ألمانيا (جمهورية فايمار)، حيث شهدت تحولات اجتماعية وفكرية عميقة.
في هذا السياق، قدم هايدغر عمله كـنقد جذري للتقاليد الفلسفية الغربية منذ أفلاطون، متحديًا إهمالها للسؤال المركزي: "معنى الوجود" (Seinsfrage).
رغم تأثره بفينومينولوجيا هوسرل، اختلف جوهريًا برفضه الفصل بين الوعي والعالم، مؤكدًا أن الوجود الإنساني مغروس دائمًا في سياق ملموس . يُعد الكتاب أحد أهم النصوص الفلسفية في القرن العشرين، وأثر في الوجودية والتفكيكية والعلوم الإنسانية.
(علم الظواهر) الفينومينولوجيا (فن التأويل) الهرمنيوطيقية
يطوّر منهجًا فريدًا يستند إلى:
التحطيم (Destruktion): تفكيك التراث الميتافيزيقي لإزالة "الحجب" التي تراكمت على مفاهيم الوجود عبر التاريخ، والكشف عن أصولها المنسية .
الفينومينولوجيا التفسيرية: لا تدرس "الظواهر" كموضوعات مجردة، بل كـكيفيات انكشاف الوجود في التجربة المعيشة. يُعرّف هايدغر الفينومينولوجيا بأنها: "ترك ما يظهر نفسه يُرى من ذاته كما يظهر من ذاته".
الدوران الهرمنيوطيقي: لا يمكن فهم الوجود إلا من خلال تحليل الكينونة الإنسانية (الدازين)، وفهم الدازين يتطلب بدوره إشراك سؤال الوجود.
الوجود الإنساني
1. طبيعة الدازين (Dasein) وتميزها
الدازين (التي تعني حرفيًا "الوجود-هناك") هو الوجود الإنساني الذي يتميز بـ:
الوعي بوجوده: هو الكائن الوحيد الذي "وجودُه مسألةٌ بالنسبة له"، ويطرح سؤالًا عن معناه.
الإلقائية (Geworfenheit): الدازين يُلقى به في العالم دون اختيار؛ موجود دومًا في سياق تاريخي وثقافي واجتماعي محدد ("هناك" Da) لم يضعه لنفسه.
الإمكانية (Seinkönnen): وجوده ليس ثابتًا بل هو توجُّه دائم نحو إمكاناته ("يكون دومًا أمام ذاته"). جوهره هو وجوده الفعلي، وليس ماهية ثابتة.
الرعاية (Sorge - Care): البنية الأساسية لوجود الدازين، وتعني انشغاله الدائم بوجوده والعالم والآخرين. تُوصف بأنها: "تقدُّم الذات-في-العالم-بوصفه-مع-الكينونات-داخل-العالم".
2. الكينونة-في-العالم (In-der-Welt-sein)
يؤكد أن الدازين لا يوجد كـ"ذات" منفصلة عن "موضوع"، بل هو دومًا موجود في العالم بشكل عملي. يتجلى هذا في نمطين:
جاهزية اليد (Zuhandenheit - Ready-to-hand): الطريقة الأساسية لمواجهة العالم. نتعامل مع الأشياء كـأدوات ضمن سياق معنى (مطرقة في سياق البناء، قلم في سياق الكتابة). تكون الأدوات "شفافة" حين تعمل بسلاسة، وتنكشف كـ"أشياء" فقط عند تعطلها.
حضور اليد (Vorhandenheit - Present-at-hand): النمط الثانوي، حيث ننظر إلى الأشياء كـموضوعات محايدة مجردة (كالفيزيائي الذي يدرس خصائص المطرقة بمعزل عن استخدامها). هذا النمط مشتق من النمط الأول وليس أساسيًا.
نمطا التعامل مع العالم عند الدازين
| نمط الوجود | الوصف | مثال | الأولوية |
|---|---|---|---|
| جاهزية اليد | تفاعل عملي ضمن سياق معنوي | استخدام المطرقة للبناء | أساسي |
| حضور اليد | تأمل نظري مجرد للشيء بمعزل عن سياقه | دراسة وزن وشكل المطرقة فيزيائيًا | مشتق |
3. الكينونة-مع-الآخرين والـ"هم" (Das Man)
الدازين هو دومًا كينونة-مع-الآخرين (Mitsein). لكن في وجوده اليومي، يسقط الدازين في عالم "الهم" (Das Man - The They):
الـ"هم": كيان مجهول غير محدد، يمثل الرأي العام، المعايير الاجتماعية، والتوقعات الجماعية. يقدم "الهم" للدازين راحة التوافق والهروب من المسؤولية.
مظاهر السقوط في "الهم":
الثرثرة (Gerede - Idle talk): كلام منقول بلا فهم أصيل، يخفي الحقيقة بدلاً من كشفها.
الفضول (Neugier - Curiosity): بحث سطحي عن الجديد بلا عمق، هروب من مواجهة الذات.
الالتباس (Zweideutigkeit - Ambiguity): غموض يمنع التمييز بين الأصيل والزائف.
الوجود غير الأصيل: في هذا الوضع، يفقد الدازين ذاته الفردية، ويعيش وفقًا لـ"ما يُفعل عادةً"، "ما يُقال"، متخليًا عن حريته وإمكانياته.
4. الكشف عن الوجود: المزاج والفهم
ينكشف وجود الدازين في العالم عبر بُعدين أساسيين:
المزاج (Befindlichkeit - Attunement/Mood): ليست مجرد حالة نفسية، بل هي كيفية وجدانية أساسية تُلقى بها الدازين في العالم وتكشف له: وضعه في الوجود، هشاشته، وعلاقته الأساسية بالعالم (مثل القلق، الفرح، الملل). يسبق المزاج الفكر المجرد.
الفهم (Verstehen - Understanding): ليس نشاطًا فكريًا فقط، بل هو قدرة الدازين على التوجه نحو إمكانياته وتأويل ذاته والعالم. يتجسد في المشروع (Entwurf - Projection) الذي يوجه أفعال الدازين.
الخطاب (Rede - Discourse): التعبير الملموس عن الفهم، وهو أساس اللغة. اللغة ليست أداة تواصل فقط، بل هي كاشف أساسي لوجودنا في العالم.
الجزء الثاني: الزمانية والأصالة
1. الموت والكينونة-نحو-الموت (Sein-zum-Tode)
الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هو الإمكانية الأكثر أصالة للدازين:
اللامنوبذلية (Jemeinigkeit - Mineness): الموت لا يُختَزَل ولا يُناب عنه؛ هو إمكانية فردية بحتة تخصني وحدي.
اليقين واللايقين: الموت مؤكد الحدوث، لكن توقيته مجهول .
الكينونة-نحو-الموت الأصيلة: لا تعني التمني بالموت، بل مواجهة الإمكانية المحتومة للموت كإمكانية، مما يُفرد الدازين ويخرجه من سجن "الهم".
القلق (Angst - Anxiety): مزاج أساسي يكشف الموت. يختلف عن الخوف (Furcht) الذي له موضوع محدد (كالخوف من حيوان). القلق يُواجه الدازين بـالعَدَم وحرية وجوده وعزلة ذاته أمام الموت.
2. الضمير والذنب والدعوة إلى الأصالة
الضمير (Gewissen - Conscience): ليس صوتًا أخلاقيًا خارجيًا، بل هو دعوة من أعماق الدازين نفسه لاستعادة ذاته من ضياعها في "الهم". يدعوه إلى الإمكانية الأصيلة لكونه مذنبًا.
الذنب (Schuld - Guilt): ليس خطيئة أخلاقية، بل هو سلبية أساسية في وجود الدازين: كونه مسئولاً عن ذاته رغم إلقائيته، ومحدودًا في إمكانياته. الاعتراف بهذا الذنب الوجودي شرط للأصالة.
العزم (Entschlossenheit - Resoluteness): الاستجابة لدعوة الضمير. هي قرار وجودي بتحمل حرية الذات ومسؤوليتها تجاه إمكانياتها في سياقها الملموس، رغم عدم اليقين.
3. الزمانية (Zeitlichkeit - Temporality)
يكشف هايدغر أن الزمان هو معنى الرعاية (Sorge)، وبالتالي هو البنية الأساسية لوجود الدازين . الزمانية الوجودية تختلف عن الزمن الفيزيائي (الخطي المتجانس):
الأبعاد الزمنية المتشابكة:
المستقبل (Zu-kunft - Future): البعد الأساسي. ليس زمانًا لم يأتِ، بل هو توجه الدازين الدائم نحو إمكانياته (مشروعه).
الماضي (Gewesenheit - Having-been): ليس زمنًا انقضى، بل هو الإلقائية التي نُحمَل عليها ونُعيد تأويلها باستمرار.
الحاضر (Gegenwart - Present): ليس لحظة معزولة، بل هو الانشغال بالعالم في ضوء الإمكانيات وإعادة تأويل الماضي.
الزمنية الأصيلة: تبدأ من المستقبل (الانفتاح على الإمكانية، خاصة الموت)، ثم تُعيد تأويل الماضي (الإلقائية) لتعيش الحاضر انطلاقًا من هذا الفهم.
الزمنية غير الأصيلة: تهيمن عليها الحاضر (الانشغال المباشر بالعادي اليومي) مع نسيان الإمكانية المستقبلية الأصيلة وتجاهل عبء الماضي.
الأبعاد الزمنية للرعاية
| البعد الزماني | المعنى الوجودي | تجلِّيه في الرعاية (Sorge) | نمط الوجود |
|---|---|---|---|
| المستقبل | التوجه نحو الإمكانيات (المشروع) | تقدُّم الذات-نفسها (Sich-vorweg) | أساسي في الأصالة |
| الماضي | الإلقائية (الوجود المفروض في العالم) | الكينونة-في-العالم (In-der-Welt-sein) | أساسي |
| الحاضر | الانشغال بالعالم (الموجودات) | الكينونة-مع (الآخرين/الأشياء) (Sein-bei) | سائد في غير الأصالة |
4. التاريخية (Geschichtlichkeit - Historicity)
وجود الدازين تاريخي جوهريًا. التاريخية الأصيلة لا تعني جمع وقائع ماضية، بل:
التراث (Erbe - Heritage): تقبل الإمكانيات الموروثة من الماضي لا كأمر مسلم به، بل كـإمكانيات يُعاد اختيارها بفعالية.
التكرار (Wiederholung - Repetition): ليس تكرارًا آليًا للماضي، بل استعادة إمكانية دازين سابقة وتفعيلها في الحاضر بوعي وقرار.
المصير (Schicksal - Fate): ليس قدرًا خارجيًا، بل هو تحقيق الدازين الفردي لإمكانيته الأصيلة في سياق تاريخي محدد.
التحديات
أهمية الكتاب: أحدث ثورة في الفلسفة الغربية، وأسس للوجودية (سارتر)، والهرمنيوطيقا الفلسفية (غادامير)، والتفكيك (دريدا)، وأثر في علم النفس (العلاج الوجودي)، واللاهوت، والنقد الأدبي.
التحديات: الكتاب غير مكتمل (لم يُنشر القسم الثالث الموعود عن "الوجود والزمان")، وصعب اللغة بسبب مصطلحاته الجديدة وإعادة تعريف المفاهيم التقليدية.
الجدل التاريخي: لا يمكن فصل الكتاب عن انتماء هايدغر اللاحق للحزب النازي وتورطه فيه. يطرح هذا تحديات أخلاقية لتلقي فلسفته، رغم محاولة البعض فصل العمل عن سيرته الشخصية.
الاستمرارية: رغم صعوبته، يظل الكتاب مرجعًا أساسيًا لمناقشة قضايا الوجود البشري، الأصالة، التكنولوجيا، الزمن، والعلاقة بالعالم في عصرنا.
اقتباس
"الوجود في العالم يكشف عن نفسه ككل في المزاج بطريقة لا يسبقها رؤية"."الزمن هو معنى الرعاية التي تميز الكينونة"."لماذا يوجد الموجود بدلاً من العدم؟ هذا هو السؤال الأسمى"."الكينونة هي كائن لا يحدث فقط بين كائنات أخرى. بل تميزها أن كينونتها هي قضية بالنسبة لها"."الـ'هم' هو المحايد، الـ'هم'".
تحديًا فلسفيًا مفتوحًا، دعوة مستمرة لمواجهة السؤال الأكثر جوهرية وربما الأكثر إنسانية: ما معنى أن نكون؟

0 تعليقات