أن تكون أنت لأنيل سيث

أن تكون أنت

 

رؤية ثورية لفهم الوعي البشري

 "Being You: A New Science of Consciousness" لأنيل سيث

المقدمة: رحلة إلى أعماق الوعي

يظهر أنيل سيث، عالم الأعصاب البارز وأستاذ العلوم العصبية الإدراكية بجامعة ساسكس، في كتابه الرائد "Being You" (2021) رؤية ثورية لفهم الوعي البشري.

 يعيد سيث تعريف المفاهيم التقليدية عن الوعي والذات، معتمدًا على أبحاث علمية دقيقة ومدعومة بتجارب مبتكرة. يرفض سيث فكرة أن الوعي لغز مستعصٍ (المشكلة الصعبة)، وبدلاً من ذلك يطرح "المشكلة الحقيقية" القابلة للحل علميًا .

يحظى الكتاب بإشادة واسعة، حيث صنّف كأفضل كتاب علمي لعام 2021 من قبل الغارديان والمالي تايمز، واعتبره ديفيد بيرن "وحشًا أدبيًا مذهلاً" . 


 تفكيك لغز الوعي

1. من المشكلة الصعبة إلى المشكلة الحقيقية

  • رفض "المشكلة الصعبة": يرفض سيث تصور ديفيد تشالمرز عن الوعي كمشكلة فلسفية مستعصية (لماذا توجد تجارب ذاتية من الأساس؟). بدلاً من ذلك، يطرح "المشكلة الحقيقية" التي تركز على:

    • التفسير: كيف تنشأ تجربة واعية محددة من عمليات دماغية؟

    • التنبؤ: كيف نستدل على الحالة الواعية من نشاط الدماغ؟

    • التحكم: كيف نعدّل التجارب الواعية عبر التأثير في آلياتها العصبية؟ .

  • تشبيه بالظواهر البيولوجية: يقارن سيث تطور علم الوعي بعلم الأحياء الذي حلّل "الحياة" إلى عمليات كيميائية فيزيائية، مما جعل "الحيوية" (vitalism) نظرية بالية .

2. الوعي ليس ظاهرة واحدة

يفكك سيث الوعي إلى ثلاثة أبعاد قابلة للدراسة:

  • مستوى الوعي (Conscious Level): يتراوح من الموت الدماغي → الغيبوبة → النوم → اليقظة → الحالات غير الاعتيادية (مثل تأثير المُهلوسات) .

  • محتوى الوعي (Conscious Content): العناصر الحسية (ألوان، أصوات) والعاطفية والفكرية التي تشكل تجربتنا .

  • ذات الوعي (Conscious Self): الإحساس بـ "الأنا" ككيان موحد .


 آليات صنع الوعي

1. الدماغ: آلة تنبؤية

  • الهلوسة الخاضعة للتحكم (Controlled Hallucination):

    • يجادل سيث بأن الإدراك ليس انعكاسًا سلبيًا للواقع، بل بناءً داخليًا (هلوسة) ينتجه الدماغ.

    • يدمج الدماغ التوقعات المسبقة (المبنية على خبرات سابقة) مع المدخلات الحسية، ويصحح الفروق عبر تصغير خطأ التنبؤ (Prediction Error Minimization) .

  • دور التوقعات في تشكيل الواقع:

    • تجربة الفستان (The Dress): يرى بعض الناس فستانًا بألوان ذهبية وبيضاء، بينما يراه آخرون زرقاء وسوداء. يعتمد هذا على توقعات الدماغ حول الإضاءة المحيطة، مما يثبت أن الإدراك بناء داخلي وليس انعكاسًا خارجيًا .

    • تأثير التوقعات على الرؤية: في تجارب عرض صور متضاربة على العينين، يغلب الدماغ الصورة المتوقعة حتى لو كانت غير موجودة .

2. الاستدلال البايزي والنموذج التنبئي

  • الدماغ كعالم إحصائي: يستخدم الدماغ نظرية بايز لاحتساب احتمالات الأحداث، محدثًا توقعاته باستمرار بناءً على دقة الأدلة الجديدة .

  • الاستدلال النشط (Active Inference): لا يقتصر دور الدماغ على التنبؤ، بل يتخذ إجراءات لتغيير الواقع ليناسب توقعاته (مثل تحريك اليد للمس شيء متوقع) .

3. مستويات الوعي: القياس العلمي

  • مؤشر الاضطراب التعقيدي (PCI): مقياس يعتمد على تحفيز الدماغ مغناطيسيًا (TMS) وتسجيل استجابته بالرسم الكهربائي (EEG). كلما زاد تعقيد النشاط، ارتفع مستوى الوعي .

  • تطبيقات طبية:

    • تمييز المرضى "المحبوسين" (واعون لكن مشلولون) من ذوي الغيبوبة الكاملة .

    • قياس زيادة الوعي تحت تأثير المُهلوسات (مثل LSD) مقارنة باليقظة العادية .


 تفكيك الذات

1. الذات كـ "هلوسة" مركبة

يحدد سيث خمسة مكونات للذات، كلها بناءات دماغية:

  • الذات الجسدية (Bodily Self): إحساسنا بحدود أجسادنا. تجربة الخروج من الجسد: يمكن خداع الدماغ عبر محفزات بصرية-لمسية متضاربة لجعل الشخص يشعر أنه خارج جسده .

  • الذات المنظورية (Perspectival Self): رؤية العالم من منظور "أنا هنا" .

  • الذات الإرادية (Volitional Self): وهم التحكم بالإرادة الحرة. التجارب تظهر أن الدماغ يتخذ القرار قبل وعينا به بثوانٍ .

  • الذات السردية (Narrative Self): هويتنا المبنية على الذكريات. تأثير الخرف: فقدان الذاكرة يقوض الإحساس بالهوية المستمرة .

  • الذات الاجتماعية (Social Self): صورتنا عن أنفسنا من خلال عيون الآخرين .

2. الأساس البيولوجي للذات

  • نظرية الآلة الوحشية (Beast Machine Theory):

    • الذات تطورت كأداة بيولوجية لضمان بقاء الجسم.

    • المشاعر (مثل الخوف) ليست أسبابًا للاستجابات الجسدية (تسارع القلب)، بل نتاج إدراك الدماغ لتلك الاستجابات: "نحن حزينون لأننا نبكي، لا نبكي لأننا حزينون" .

  • التوازن الداخلي (Interoception): يراقب الدماغ الإشارات الداخلية (نبض القلب، حرارة الجسم) ويعدلها للحفاظ على التوازن الحيوي، مما يخلق الإحساس الغامض بـ "أن تكون حيًا" .


تطبيقات وجدل

1. الوعي خارج الإنسان

  • الحيوانات:

    • الأخطبوط: نموذج لوعي "غريب" تطور بشكل مستقل. جهازه العصبي موزع على مجساته، مما يخلق وعيًا لامركزيًا شبيهاً بالذكاء الاصطناعي المتوزع .

    • الاختبارات السلوكية: قلة من الحيوانات (كالقردة العليا والدلافين) تجتاز اختبار المرآة (إدراك الذات) .

  • الذكاء الاصطناعي:

    • يشكك سيث في إمكانية وعي الآلات لغياب الدافع البيولوجي للبقاء، الذي يعتبره أساس التجربة الواعية .

2. انتقادات وجدل فلسفي

  • مصطلح "هلوسة": يجادل نقاد مثل بول ثاجارد بأن المصطلح مضلل، إذ أن الإدراك مقيد بالواقع وليس انفصالًا عنه .

  • المشكلة الصعبة: يرى بعض الفلاسفة (ككولين ماثرز) أن سيث يتجنب السؤال الجوهري: كيف تنشأ التجربة الذاتية من المادة؟ .

  • نظرية المعلومات المتكاملة (IIT): ينتقد سيث استخدام مقياس Φ (فاي) لقياس الوعي لصعوبة حسابه عمليًا وعدم وجود أدلة كافية .


إسهامات العمل وأهميته

يقدم "Being You" إسهامات جوهرية:

  • دمج العلم والفلسفة: يحول النقاش من سجالات فلسفية إلى برنامج بحثي عملي.

  • تأثيرات تطبيقية: تطبيقات في تشخيص اضطرابات الوعي وعلاجها .

  • رؤية إنسانية: يؤكد أن فهم الوعي كعملية بيولوجية لا يقلل من غناه، بل يعمق تقديرنا لـ "معجزة" الوجود .

رغم الانتقادات، يظل هذا العمل مرجعًا أساسيًا يقدم رؤية متكاملة تجعل الغموض المحيط بالوعي أقل إرباكًا وأكثر إثارة للاستكشاف. كما قال جوليان باجيني في وول ستريت جورنال: "إذا قرأت كتابًا واحدًا عن الوعي، فليكن هذا المؤلف

أن تكون أنت

إرسال تعليق

0 تعليقات