العودة إلى الذات - رحلات في المنفى

العودة إلى الذات - رحلات في المنفى

 

 "A Return to Self: Excursions in Exile" لتأليف عاطش تسير

 رحلة البحث عن الهوية في عالم مقسم

"A Return to Self: Excursions in Exile" (العودة إلى الذات: رحلات في المنفى) هو عمل هجين يجمع بين أدب الرحلة والسيرة الذاتية للكاتب البريطاني الأمريكي عاطش تسير.

 صدر الكتاب في 15 يوليو 2025 عن دار كاتابولت للنشر، ويقع في 240 صفحة. يأتي هذا العمل في أعقاب حدث شخصي مؤسف هزّ أساس هوية تسير: قرار الحكومة الهندية في عام 2019 بسحب وضعيته كمواطن وراء البحار (Overseas Citizenship of India).

يدفع هذا الحدث تسير إلى الشروع في رحلة عبر عدة دول - من إسطنبول إلى أوزبكستان، وإسبانيا، والمكسيك، وسريلانكا، وغيرها - في محاولة لفهم طبيعة الهوية الوطنية والانتماء في عصر يعيش نهضة قومية متطرفة

لا يقتصر الكتاب على كونه سردًا لرحلات جغرافية فحسب، بل هو استكشاف عميق للذات، ومحاولة للإجابة على أسئلة وجودية حول ما يصنع الوطن، وكيفية تشكّل الهوية الفردية والجماعية، وما يحدث عندما يتم اقتلاع الشخص من التربة التي يعتبرها مصدرًا لهويته.

يُوصف أسلوب تسير في هذا الكتاب بأنه "جمع بين الروحانية والرومانسية"، مع "ملاحظات مليئة بالبصيرة" و"نثر مترف بأناقة". يقدم الكتاب رؤية غامرة لعالم مترابط بالكامل، حيث تصبح المدن القديمة رموزًا للطبقات التاريخية والثقافية المتعددة التي تشكل حاضرنا.

السياق التاريخي والشخصي: خلفية فقدان الجنسية

الحدث المحوري: سحب المواطنة

في مايو 2019، نشر عاطش تسير مقالًا غلافًا لمجلة "تايم" انتقد فيه بشدة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، واصفًا إياه بـ"مفرق الهند الأكبر" (India's Divider in Chief).

 وبعد بضعة أشهر فقط، في أغسطس 2019، تلقى تسير إشعارًا من الحكومة الهندية يهدد بسحب وضعية المواطنة الخارجية (OCI) التي كان يتمتع بها، والتي تسمح لحامليها بالإقامة الدائمة والعمل في الهند دون تأشيرة، وذلك على أساس جنسية والده الباكستاني.

ما جعل هذا القرار مثيرًا للجدل هو أن تسير، على الرغم من ولادته في بريطانيا، نشأ وترعرع في الهند منذ طفولته على يد والدته الهندية. وقد عاد للعيش في الهند بعد الجامعة بهدف أن يصبح "كاتبًا هنديًا"

علق تسير على هذا القرار قائلاً: "لطالما اعتبرت نفسي كاتبًا هنديًا. كانت العلاقة غريزية لدرجة أنني لم أشعر بالحاجة إلى التعبير عنها من قبل"

بالنسبة له، لم يكن القرار مجرد إجراء إداري، بل كان هجومًا على هويته الأساسية: "فجأة، في عام 2019، أصبحت 'باكستانيًا' في عيون حكومة مودي"، مما أدى إلى "نفيه" قسرًا ليس فقط من الهند ولكن أيضًا من مفهومه عن ذاته.

التأثير الشخصي العميق

كان للقرار تبعات إنسانية ملموسة وثقيلة على تسير. فهو حرمه من القدرة على زيارة عائلته في الهند، بما في ذلك جدته التي ربتّه في سنواتها الأخيرة، ووالدته المسنة ووالده بالتبني الذي أصيب بجلطة دماغية.

 يصف تسير هذه العواقب بقوله: "لقد كان جحيمًا". هذا الفقدان المزدوج - للهوية والوطن - هو المحرك الأساسي للرحلات والتأملات التي يحتويها الكتاب.

هيكل الكتاب والرحلات الرئيسية: إطار الاستكشاف

الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات أو "الرحلات" التي تنظم حول موضوع مركزي هو البحث عن الذات والهوية. كل فصل هو محطة في رحلة تسير الجغرافية والنفسية، حيث يزور مكانًا جديدًا يحمل فيه عدسته التحليلية لفحص كيفية تشكل الهويات الوطنية والثقافية هناك.

 الرحلات الرئيسية وموضوعاتها في الكتاب

الموقع الجغرافيالموضوعات الرئيسية المستكشفةرموز واستعارات رئيسية
إسطنبول، تركياالتقاء الحضارات (آسيا وأوروبا)، الهوية السائلة، طموحات الماضي الذاتي.الجسور، المضيق، المدينة كـ"نص palimpsest" (مخطوطة مكتوبة على نص سابق).
أوزبكستان (طريق الحرير)تاريخ التبادل الثقافي، تحول التراث إلى واجهة سياحية، الاختيار بين الاستقرار والترحال.طريق الحرير، الاختيار بين "بناء المجتمع" أو "عيش حياة الحدود".
إسبانيا (الأندلس)"تعايش" (Convivencia) الأديان، هشاشة التسامح، عواقب طرد "الآخر".التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، التطهير، الهوية الدينية.
المكسيكصدام الحضارات، القلق بشأن "الأصالة"، تشكل الهوية الوطنية بعد الصراع.مقارنات مع التاريخ الهندي، أعمال أوكتافيو باز.
سريلانكاالمنفى القسري، زيارة العائلة، التأمل في القرب الجغرافي مع البعد القانوني.المنفى، العائلة، الوطن البديل.
منغوليا البوذيةالمصالحة الروحية، إحياء الفضول الطبيعي، كـ"عودة إلى الذات".البوذية، التصالح، الروحانية.

الموضوعات الرئيسية والأطروحات: استكشاف أعماق الكتاب

1. الهوية الوطنية والقلق من الأصالة

يحاول تسير في جميع أنحاء الكتاب فهم ما الذي يشكل جوهر الأمة. في المكسيك، يستشهد بأفكار الكاتب والدبلوماسي أوكتافيو باز، الذي لاحظ كيف واجهت حضارات المكسيك القديمة "الآخر" الحقيقي - حضارة مختلفة تمامًا - مع وصول الإسبان.

 يرى تسير تشابهًا مذهلاً مع الهند، حيث خلقت الغزوات الإسلامية والحكم البريطاني قلقًا مماثلاً بشأن "الأصالة" - ما هو أصلي وما هو وارد من الخارج.

يناقش تسير كيف تستخدم الحكومات القومية المعاصرة هذا "القلق" لخلق سرديات تقوم على الاستبعاد. ففي الهند، كما في تركيا وغيرها من البلدان التي يزورها، يلاحظ ظهور "موجة قومية عميقة مماثلة ومتصلة علي ما يبدو مباشرة بالتطورات في الهند".

 يسلط الكتاب الضوء على كيف يمكن أن تصبح فكرة الوطن "وعاءً غير مستقر ومُسيَسًا للأفكار المحددة بالاستبعاد والتحيز".

2. المنفى والانتماء: الحرية من خلال فقدان الجذور

على الرغم من أن فقدان الجنسية كان تجربة مؤلمة، إلا أن تسير يكتشف فيها مفارقة عميقة. فمن ناحية، كان النفي "مربكًا بشكل مذهل"، ولكن من ناحية أخرى، حرره من رابطة لم يدرك أنها كانت تخنقه. يكتب عن "المتعة البسيطة لكونك في العالم، خاليًا من ضغوط الانتماء".

هذا يدفع التساؤل المركزي للكتاب: كيف يوازن المرء بين الدافع المتجذر لـ"الوطن" والدافع البدوي للترحال؟ يجيب تسير بأن الإجابة تكمن في التوازن.

 لطالما عانى من الشعور بعدم الراحة الناتج عن هذين الدافعين المتعارضين. يكتب: "عندما تدرك وهم ذلك [الرغبة في حل المسألة مرة واحدة وإلى الأبد], فإنك تدرك أنك ستحافظ دائمًا على توازن تلك القوى التي تحقق في الواقع نوعًا من السلام"

لحظة الاستبصار ليست في العثور على "وطن" دائم، بل في التخلي عن الرغبة في حل هذا التوتر وإيجاد السلام في عدم الاستقرار نفسه.

3. الترابط العالمي والطبقات التاريخية

إحدى نقاط القوة في الكتاب، كما أشاد بها النقاد، هي قدرة تسير على الكشف عن الترابط بين الثقافات والأحداث التاريخية التي تبدو منفصلة.

 في إسبانيا، يربط بين طرد المسلمين واليهود خلال فترة "Reconquista" وبين السياسات القومية المعاصرة. في المكسيك، يجد أوجه تشابه مع الهند لا تعود إلى اتصالات حديثة، ولكن إلى حركات هوية تاريخية مماثلة.

ينظر تسير إلى الأماكن التي يزورها على أنها "نصوص مخطوطات" - حيث تتراكم الهويات والفترات الزمنية المتعددة فوق بقعة واحدة. هذا يسمح له برؤية كيف أن "العالم القديم يمتزج بشكل حميم مع العالم المعاصر"، من تأثيرات الجائحة إلى صعود ثقافات طعام جديدة. 

العالم ليس مجموعة من الحضارات المنعزلة، بل هو نسيج مترابط، حيث تؤثر الصدمات والتحولات في منطقة ما على الأخرى عبر الزمان والمكان.

4. قنوات الاكتشاف: العطور، الطعام، والزهور

يتميز أسلوب تسير باستخدامه عناصر حسية غير تقليدية كمداخل لفهم الثقافات. بدلاً من الاعتماد solely على التحليل السياسي أو التاريخي، يتفحص كيف تعبر الهوية عن نفسها من خلال العطور والطعام والزهور.

على سبيل المثال، في مناقشة العطور، يلاحظ كيف أن صعود العطور "الشرقية" في السبعينيات (مثل عطر "أفيون" لإيف سان لوران) كان لحظة "تحدث فيها الغرب من خلال الشرق عن أشياء كانت لها علاقة بالغرب أكثر من علاقتها بالشرق".

 هذا يستدعي أفكار إدوارد سعيد حول "الاستشراق"، حيث تقوم ثقافة أقوى بالتعبير عن نفسها من خلال ثقافة أخرى، مما يخلق "أحد أعمق الصور المتكررة للآخر"

من خلال هذه العدسة، يفهم تسير كيف يتم تعريف ثقافته وتقديمها من قبل قوى خارجية، وهي عملية نادرًا ما تكون "حميدة" كما يلاحظ.

الأسلوب الأدبي والمنهجية: نسيج السرد

الجمع بين التقرير الصحفي والرومانسية

يُوصف أسلوب تسير بأنه "جمع بين التقرير الصحفي والرومانسية". فهو كمراقب حاد، يلتقط التفاصيل الدقيقة للمكان - الروائح، الأذواق، المشاهد - بينما يغوص في الطبقات التاريخية والفلسفية التي تشكله. هذا المزج يخلق نسيجًا سرديًا غنيًا يكون فيه الشخصي عالميًا، والعالمي شخصيًا.

الضعف والصراع الداخلي

على عكس العديد من كتب الرحلات التي تقدم الكاتب واثقًا، لا يخفي تسير ارتباكه ويأسه. المراجعة في  تلاحظ أن "ارتباك ويأس تسير القراءه منفاه من معناه الذاتي يتم حلهما في "العودة إلى الذات"؛ تسير كما يعود "إلى الذات"".

 هذا الضعف هو في صميم قوة الكتاب. إنه لا يقدم إجابات سهلة، بل يوثق رحلة صادقة من الخساء والبحث. لحظة "العودة إلى الذات" ليست وصولاً إلى وجهة نهائية، بل هي "إحياء فضولاته الطبيعية"، وقبول حالة السؤال الدائم.

الاستقبال النقدي والمراجعات: صوتان نقديان

تلقى الكتاب مراجعات إيجابية بشكل لافت من منشورات أدبية مرموقة:

  • Publishers Weekly (مراجعة starred and boxed): أشادت بالمجموعة "الرائعة"، ووصفتها بأنها "مكتوبة بترف، ومراقبة بأناقة"، و"رؤية مذهلة وغامرة لعالم مترابط بالكامل".

  • Shelf Awareness (مراجعة starred): وصفته بأنه "رفيق سفر essential"، ملمحًا إلى أن "تسير هو راوي موهوب يمتص محيطه ويدعو القراء to تجربة الطبيعة المميزة للأماكن التي زارها".

  • Kirkus Reviews: أشاد بالعمل باعتباره "غنائيًا، مثيرًا للفكر، وضعيفًا، نسج بخبرة بين المذكرات والبحث والتفكير".

ومع ذلك، قدمت مراجعة Asian Review of Books قراءة نقدية، لاحظ هذا "تسير يبقى خاصة غير سياسي خلال الكتاب كله". بينما يناقش القومية، إلا أنه يفعل ذلك أولا من خلال عدسة هويته الشخصية. 

النقد يلمح إلى أن الكتاب، في التركيز على البحث الذاتي، قد يلمس فقط بشكل سطحي التبعات السياسية الأوسع لسياسات مودي، التي تجاوزت 11 عامًا في السلطة. هذه وجهة نظر مهمة توازن الإشادات الأخرى، مشيرة إلى أن رحلة تسير هي في الأساس استكشاف فلسفي داخلي أكثر من كونها تحليلاً سياسيًا خارجيا.

 رحلة غير مكتملة نحو الذات

"العودة إلى الذات: رحلات في المنفى" هو عمل عميق يتجاوز النوع أدب الرحلات. إنه تأمل وقتي وجريء في أسئلة الهوية والانتماء التي تحدد عصرنا. من خلال عدسة خسارته الشخصية للجنسية، يفتح تسير نافذة على قضايا عالمية أوسع: صعود القومية، هشاشة المجتمعات المتعددة الثقافات، والبحث الدائم عن معنى "الوطن".

قوة الكتاب لا تكمن في تقديم إجابات حاسمة، ولكن في صياغة الأسئلة بطريقة شعرية وذات بصيرة. إنه يذكرنا بأن الهوية ليست معطى ثابتًا، بل هي عملية مستمرة من التفاوض بين الذات والعالم. لحظة "العودة إلى الذات" التي يسعى إليها تسير ليست عودة إلى حالة سابقة، بل هي قبول للذات ككائن متحرك، وقادر على إيجاد السلام ليس بالرغم من عدم استقراره، لكن من خلاله.

في النهاية، يقدم الكتاب "مانيفستو للحضارة والإنسانية العالمية". إنه دعوة إلى تبني التعقيد، ورفع السرديات البسيطة، وإيجاد القوة ليس في الانتماءات الثابتة، ولكن في الترابط الديناميكي للعالم وفي القدرة على الموازنة بين المنفى والوطن كحالة وجود دائمة

إرسال تعليق

0 تعليقات