زهرة سافرت في دمي

زهرة سافرت في دمي

 

 "A Flower Traveled in My Blood" لهالي كوهن غيلياند

 القبض على ذاكرة أمة

"واحد من أكثر أفعال الجيش diabólico كان اختطاف مئات النساء الحوامل". 

بهذه العبارة الصادمة يبدأ الصحفي هالي كوهن غيلياند رحلته في سرد واحدة من أفظع جرائم القرن العشرين وأكثر قصص المقاومة الإنسانية إلهامًا.

 كتاب "A Flower Traveled in My Blood: The Incredible True Story of the Grandmothers Who Fought to Find a Stolen Generation of Children" 

هو عمل موسوعي يمزج بين الدقة التاريخية والسرد القصصي المؤثر، ليقدم للقارئ الحكاية الاستثنائية لجمعية "Abuelas de Plaza de Mayo" (جدات ساحة مايو)، تلك المجموعة من الجدات الشجاعات اللواتي تحدين الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين للعثور على أحفادهن المختطفين.

الكتاب الذي صدر عام 2025، وحظي بمراجعات نقدية مبهرة، ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو تحقيق صحفي عميق استغرق إعداده تقريبا خمس سنوات، وشمل مقابلات مع عشرات الشخصيات ومراجعة آلاف الوثائق الأرشيفية

من خلال تتبعه قصة عائلة روزا رويسينبليت المركزية، ينسج غيلياند خيوط قصة أمة مزقتها الديكتاتورية، وروح إنسانية ترفض الاستسلام.

 معلومات أساسية عن الكتاب

الخاصيةالتفاصيل
العنوان الكاملA Flower Traveled in My Blood: The Incredible True Story of the Grandmothers Who Fought to Find a Stolen Generation of Children
المؤلفهالي كوهن غيلياند (Haley Cohen Gilliland)
اللغة الأصليةالإنجليزية
تاريخ النشر15 يوليو 2025
دار النشرAvid Reader Press (Simon & Schuster)
عدد الصفحات512 صفحة (غلاف مقوى)
الموضوع الرئيسيتاريخ جدات ساحة مايو والبحث عن الأطفال المختطفين خلال الديكتاتورية في الأرجنتين

الأرجنتين تحت حكم المجلس العسكري (1976-1983)

لفهم عمق المأساة التي يتناولها الكتاب، يضعنا غيلياند في صلب الخلفية التاريخية للأرجنتين في منتصف السبعينيات. 

في الساعات الأولى من 24 مارس 1976، دوت شوارع بوينس آيرس بهدير الدبابات حيث اقتحم الجيش القصر الرئاسي وأطاح بالرئيسة إيزابيل بيرون. تولى الجنرال خورخي رافائيل فيديلا زمام الأمور على رأس مجلس عسكري.

تحت ذريعة استعادة النظام وإنقاذ البلاد من العنف السياسي والانهيار، أطلق المجلس العسكري ما سُمي "عملية إعادة التنظيم الوطني" (El Proceso)، وهو اسم روتيني يخفي وراءه حملة وحشية تهدف الي سحق اليسار السياسي وتطهير البلاد من أي أفكار "معادية للقيم الغربية المسيحية"

وقد حظي هذا الانقلاب بدعم خفي من الولايات المتحدة وتأييد ضمني من قطاعات من الشعب الأرجنتيني الذي سئم الاشتباكات المسلحة والتفجيرات.

ما ميز هذه الديكتاتورية، كما يوضح الكتاب،لم يكن الأمر يتعلق فقط بحجم العنف، بل بمنهجيته أيضًا.

 اعتمد النظام على "الاختفاء" (Disappearance) كأداة رئيسية للإرهاب.

 لم تكن هناك سجلات رسمية للاعتقالات، وكان مصير المعتقلين مجهولاً. تقول غيلياند: "لقد اعتمد الجيش على الصمت والإرهاب. 

بدلاً من قتل الناس والاحتفاظ بسجلات للعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، كانت الطريقة الرئيسية للجيش هي تخدير الضحايا، وتحميلهم في طائرات، وتجريدهم من ملابسهم، ثم الطيران بهم فوق نهر لا بلاتا الواسع والقوي ودفعهم إلى النهر لتحمل تيارات المياه جثثهم بعيدًا"

عُرفت هذه العمليات بـ "رحلات الموت" (Death Flights)، وكانت مصير الآلاف.

الضحايا: لم يقتصر القمع على المقاتلين المسلحين فقط، بل امتد ليشمل طيفًا واسعًا من المجتمع: الطلاب، الفنانين، الصحفيين، نقابيين، محامون يدافعون عن النقابات، موسيقيون، شعراء، كهنة يخدمون الفقراء، وراهبات ساعدن العائلات التي تبحث عن مفقوديها

في عيون الديكتاتورية، كانوا جميعًا "مخربين" (subversives). تتراوح تقديرات عدد "المختفين" (Desaparecidos) بين 8,960 (حسب التقرير الرسمي الأول) إلى 30,000 حسب تقديرات جماعات حقوق الإنسان.

 سرقة الأطفال

ضمن هذه الحملة الواسعة، برزت جريمة أكثر دناءة، وهي التي شكلت قلب قضية الجدات: اختطاف النساء الحوامل أو اللواتي لديهن أطفال رضع.

 كانت باتريسيا رويسينبليت، ابنة روزا البطلة الرئيسية للكتاب، واحدة من هؤلاء النساء. كانت باتريسيا، وهي أم وثورية يسارية، قد اختطفت وهي في الشهر الثامن من حملها بطفلها الثاني. أنجبت في الأسر، ثم اختفت هي وزوجها خوسيه بعد ذلك. 

طفلها الرضيع، مثل المئات غيره، أُعطي سرًا لعائلات أخرى - كثير منها تابعة للشرطة أو الضباط العسكريين أو مؤيدي النظام.

كانت الخطة المنهجية للنظام، كما يوثق الكتاب، هي "محو" جيل كامل من المعارضين مع "إعادة تربية" أطفالهم ضمن قيم النظام.

 تم تقديم هؤلاء الأطفال كـ"هدايا" أو "مكافآت" للعائلات الموالية، وغالبًا ما تم تسجيلهم بشكل غير قانوني كأبناء بيولوجيين للعائلات المتبنية. قدرت "الجَدّات" أن حوالي 500 طفل قد سُرقوا بهذه الطريقة، وتم تأكيد هوية 392 منهم بشكل رسمي حتى اليوم.

ولادة المقاومة: تأسيس "جدات ساحة مايو"

من رحم هذه المأساة، ولدت واحدة من أبرز حركات حقوق الإنسان في التاريخ. كانت روزا رويسينبليت، التي كانت تعمل كقابلة (Obstetrician)، قد ألقت بنفسها في يأس للبحث عن ابنتها باتريسيا وحفيدها الذي لم تره. 

سرعان ما اكتشفت أنها ليست وحدها. التقت مجموعة من النساء في نفس الموقف، جمعهما حزن مزدوج: اختفاء أبنائهن وسرقة أحفادهن.

قررت هذه الجدات تشكيل منظمة أطلقن عليها اسم "Abuelas de Plaza de Mayo". واختيرت ساحة مايو (Plaza de Mayo)، الواقعة أمام القصر الرئاسي (Casa Rosada)، مكانًا لاحتجاجهن الصامت والشجاع. 

كان يجتمعن كل أسبوع في الساعة 3:30 بالتحديد، ليتجولن متشابكات الأذرع حول النصب التذكاري في الساحة. وكتبت غيلياند: "بدأن بحلقة صغيرة، ولكن كل أسبوع، كبرت الحلقة أكثر وأكثر، لأن كثيرًا من الناس كانوا يختفون وكان أحباؤهم يبحثون عنهم"

لتمييز أنفسهن وإحياء ذكرى أطفالهن المختفين، ربطن حفاضات الأطفال البيضاء على رؤوسهن، مما أصبح لاحقًا رمزًا دوليًا لنضالهن.

كان التحدي هائلاً. كانت البلاد تحت حكم نظام قمعي، والتحدث علنًا يمكن أن يعني الموت. لكن كما توضح غيلياند، "كانت هناك قوة بداخهن أقوى من الخوف، وهي الحب لأطفالهن الذين اختفوا، وكذلك شوقهن لأحفادهن، البقايا الوحيدة لأطفالهن التي تركت على الأرض. فطغت هذه القوى على خوفهن ودفعتهن للأمام، حتى عندما أدركن أن القيام بذلك كان خطيرًا للغاية".

تكتيكات البحث: من الاحتجاج إلى التحري العلمي

لم تكن مسيرة الجدات مجرد مسيرات احتجاجية. لقد تحولن إلى محققات بارعات، طورن استراتيجيات عبقرية وخطيرة للغاية لجمع المعلومات:

  • التنكر والتخفي: تنكرت بعض الجدات كبائعات لمنتجات الأطفال لمراقبة العائلات المشتبه بها، أو كنادبات في المقابر لجمع intelligence.

  • اللقاءات السرية: كن يعقدن اجتماعات في مقاهٍ تحت غطاء حفلات عيد ميلاد وهمية (حيث كانت المجموعات الكبيرة تثير شكًا أقل).

  • مواجهة السلطات: واجهن ضباط عسكريين وجهًا لوجه، وقدمْن آلاف الطلبات إلى المحاكم على الرغم من معرفتهن باستحالة حصولهن على العدالة في ذلك الوقت.

  • التواصل الدولي: كتبن رسائل إلى صحفيين ودبلوماسيين أجانب لكسر جدار الصمت الإعلامي المحلي.

لكن التحدي الأكبر كان: كيف تثبت بنوة طفل لم تره من قبل؟ العديد من الجدات، مثل روزا، لم يقابلن أحفادهن مطلقًا؛ فقد أُخذوا من بطون أمهاتهم. أدركت الجدات ببصيرة نادرة أنهن بحاجة إلى أداة موضوعية لا تقبل الجدل، شيء يمكن أن تقبله المحاكم. وقد أدركن أن الإجابات قد تأتي من العلم.

بدأت الجدات رحلة عالمية، يتحدثن إلى أي عالم وراثة يستمع إليهن، ويسألن عما إذا كان بإمكانهم المساعدة في تطوير "اختبار للأبوة الجدية" (grandpaternity test). كان هذا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، قبل أن يصبح اختبار الحمض النووي (DNA) متاحًا على نطاق واسع. 

قابلن في البداية بالرفض أو اللامبالاة، حتى تم توصيلهن في النهاية بعالمة الوراثة الأمريكية الشهيرة الدكتورة ماري-كلير كينغ (Dr. Mary-Claire King).

كان التعاون بين الجدات والدكتورة كينغ ثوريًا. معًا، طوّرُوا شكلاً رائدًا جديدًا من الاختبارات الجينية يسمى "مؤشر الأبوة الجدية" (Grandpaternity Index)، والذي سمح للجدات بإثبات علاقتهن الجينية بأحفادهن المسروقين في وقت كان ذلك غير مسبوق تمامًا.

 لم يكن هذا الإنجاز مجرد انتصار للجدات فحسب، بل كان إسهامًا عظيمًا في علم الوراثة الشرعية على مستوى العالم. وتشير غيلياند إلى أن "كينغ نفسها ترى أنها والجدات كانا من بين رواد "علم الأنساب الجيني" (genetic genealogy)".

العثور على الحقيقة: التعقيدات العاطفية والأخلاقية

مع عودة الديمقراطية إلى الأرجنتين في عام 1983 ونجاح الاختبارات الجينية، بدأت قصص اللقاءات تظهر. لكن العثور على الأطفال لم يكن دائمًا هو النهاية السعيدة البسيطة التي توقعها الجميع. يواجه الكتاب بعمق وصدق التعقيدات الأخلاقية والعاطفية الهائلة التي نشأت.

  • معارك الحضانة: عندما كان الأطفال لا يزالون قاصرين، وجدت الجدات أنفسهن في معارك حضانة شرسة مع العائلات التي ربّت أحفادها، والتي رفضت في كثير من الأحيان التخلي عنهم.

  • رفض الهوية البيولوجية: في بعض الحالات، خاصة عندما كبر الأطفال، عبر بعضهم عن رغبته في البقاء مع العائلة التي ربيته، حتى بعد أن علم أن والديه البيولوجيين قد قُتلا. مثل غييرمو غوميز (الاسم المستعار)، الذي رفض في البداية قبول نتائج اختبار الحمض النووي. هذا الخلق لـ "وضع تاريخين، هويتين" كان صادمًا للجدات ومؤلمًا بشكل لا يصدق.

  • صدمة الأطفال المختطفين: بالنسبة لشخص نشأ وهو يعتقد أن والديه هما والداه، فإن اكتشاف الحقيقة كان بمثابة زلزال يهز أساسات هويته. يصف الكتاب الصراع الداخلي لهؤلاء الشباب، الذي تم التعبير عنه في عبارات مثل: "طوال 22 عامًا كانا والديّ وأنا أحبهما".

ينقل الكتاب هذه المآزق الأخلاقية دون إصدار أحكام، تاركًا للقارئ مساحة للتفكير في أسئلة عميقة حول الهوية، والذاكرة، والعلاقات الأسرية، والعدالة.

 إرث الجدات وتأثير الكتاب

ما يميز كتاب غيلياند هو أنه لا يروي قصة من الماضي فحسب، بل يربطها بالحاضر. لا تزال الجدات نشطات حتى اليوم. في الواقع، في يوليو 2025، تمكنن من استعادة حفيد آخر

ومع ذلك، فإن النضال من أجل الذاكرة مستمر. يشير الكتاب إلى أن الرئيس الحالي للأرجنتين، خافير مايلي، يروج لرواية مختلفة عن تلك الفترة، واصفًا إياها بـ "حرب مبررة" ارتُكبت فيها "تجاوزات"، مما يخلق توترًا مع جماعات حقوق الإنسان.

إرث الجدات هائل. لم يجدن أحفادهن فحسب، بل غيّرن العالم أيضًا:

  • التقدم العلمي: كان تعاونهن مع ماري-كلير كينغ رائدًا في مجال استخدام علم الوراثة لحقوق الإنسان.

  • السوابق القانونية: ساعد نضالهن في إنشاء سوابق قانونية دولية تتعلق بحق الهوية وحقوق الإنسان.

  • نموذج للمقاومة السلمية: قدمن نموذجًا ملهماً للمقاومة السلمية التي تقودها النساء ضد القمع.

الكتاب نفسه، كما كتبت جينيفر سزلاي في صحيفة نيويورك تايمز، هو قوية، مروعة، صادمة وواضحة. 

"يجب أن يقسو قلبك حتى لا تتأثر ب سعي الجدات". إنه تذكير مؤلم بما يحدث عندما تستسلم الديمقراطية للاستبداد، وشهادة على أن الحب والمثابرة يمكن أن ينتصروا في النهاية.

باختياره عنوان الكتاب من قصيدة "نقش ضريحي" للشاعر الأرجنتيني خوان جلمان، والذي كُتب قبل الديكتاتورية، يلمح غيلياند إلى أن القصيدة والأدب يمكن أن يكونا نبوءة ومقاومة. 

" زهر سافر في دمي" هو أكثر من مجرد عنوان؛ إنه استعارة للجمال والذاكرة التي تستمر في الحياة رغم كل محاولات القتل والنسيان

إرسال تعليق

0 تعليقات