تمهيد
يصدر كتاب "Hermann Göring: Macht und Exzess" (هرمان غورينغ: القوة والإفراط) في 14 أغسطس 2025 عن دار النشر الألمانية المرموقة C.H.Beck .
يؤلفه الصحفي والمؤرخ أندرياس موليتور، وهو صحفي ومحلل اقتصادي مقيم في برلين، يتمتع بخبرة في الكتابة التاريخية حيث يكتب بانتظام لمجلة "ZEIT Geschichte" بالإضافة إلى صحف ومجلات أخرى مرموقة مثل "DIE ZEIT" و"brand eins" .
يقدم هذا العمل سردية حية وتحليلية عميقة لحياة واحدة من أكثر الشخصيات تعقيدًا وإثارة للجدل في النظام النازي.
يحظى الكتاب بتقدير النقاد منذ إصداره؛ حيث وصفه الناقد روبرت جيروارث بأنه سردية "مثيرة" كُتبت بأسلوب "حيوي" وقائمة على "بحث دقيق" . بينما يشير دانيال سيمنز من صحيفة "فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ" إلى أن موليتور يقدم عرضًا "مقنعًا وبارعًا" لحياة غورينغ، خاصة فيما يتعلق بفترة ما بعد عام 1933 .
يعد هذا الكتاب أول سيرة ذاتية رئيسية لغورينغ تصدر منذ حوالي 40 عامًا، مما يجعله إضافة مهمة للمكتبة التاريخية المعاصرة .
ملخص تفصيلي لمحتويات الكتاب
السعي نحو القوة والامتياز
يضع موليتور إطارًا تحليليًا رئيسيًا لحياة غورينغ، وهو أن سعيه الدؤوب نحو السلطة والامتياز والنفوذ مثل الخيط الأحمر الذي يربط جميع مراحل حياته، منذ طفولته وحتى إدانته في محاكمات نورنبيرغ وانتحاره لاحقًا في زنزانته .
يصور الكتاب غورينغ كشخص جشع للسلطة بلا هوادة، حيث جمع بين عدد غير مسبوق من المناصب والصلاحيات في ظل النظام النازي، لدرجة جعلته "الرجل الثاني" بعد هتلر نفسه .
السمات الشخصية والمسارات الوظيفية
يسلط الكتاب الضوء على تناقضات غورينغ الشخصية التي شكلت مساره:
الولاء المطلق لهتلر: يكشف الكتاب أن جشع غورينغ للسلطة كان له حد واحد واضح، هو ولاؤه "الخانع" لأدولف هتلر. لقد كان مخلصًا لهتلر بشكل مطلق، حتى عندما بدأ نجمه يخبو لصالح آخرين في الدائرة المقربة .
الافتقار إلى الأيديولوجية الثابتة: يجادل موليتور بأن غورينغ، على عكس بعض القادة النازيين الآخرين، لم يكن لديه كراهية أيديولوجية عميقة أو ثابتة تجاه اليهود أو الديمقراطية في صميم دوافعه. بدلاً من ذلك، كان دافعه الأساسي هو السعي لتعزيز سلطته ومكانته الشخصية، مما يجعله أكثر خطورة وتكيفًا مع متطلبات النظام .
الفشل في المناصب القيادية: على الرغم من كل سلطته، يشير الكتاب إلى أن غورينغ أظهر قدرًا كبيرًا من عدم الكفاءة في مناصب قيادية حاسمة. كقائد للسلاح الجوي ("لوفتفافه")، فشل في تأمين التفوق الجوي لألمانيا في معارك حاسمة خلال الحرب العالمية الثانية، وفشل بشكل خاص في تنفيذ جسر جوي فعال لقوات المحور المحاصرة في ستالينغراد، مما أسهم بشكل كبير في تحول مجرى الحرب ضد ألمانيا .
الأدوار الرئيسية في النظام النازي
على الرغم من إخفاقاته العسكرية، يوثق الكتاب بالتفصيل الأدوار المحورية التي لعبها غورينغ في جرائم النظام النازي:
الدور في الاضطهاد الاقتصادي لليهود: يكشف موليتور كيف قاد غورينغ عملية "إخلاء الاقتصاد الألماني من اليهود" ("Entjudung der deutschen Wirtschaft"). لم يكن هذا مجرد نقل للملكية، بل كان عملية منهجية أدت إلى "الانحدار الاقتصادي والاجتماعي" الكامل لليهود الألمان، مما سلّحهم من سبل العيش والكرامة ومهد الطريق للإبادة الجماعية اللاحقة .
الدور في التمهيد للهولوكوست: يؤكد الكتاب أن غورينغ لعب "دورًا رئيسيًا" في التحضير للهولوكوست. من خلال تنسيق السياسات الاقتصادية والقمعية، كان أحد المهندسين الرئيسيين للاضطهاد المنهجي الذي سبق عمليات الإبادة الجسدية المباشرة .
حياة البذخ والعزلة
يتتبع الكتاب التحول في حياة غورينغ بعد أن سحبت هتلر ثقتها منه بسبب إخفاقاته العسكرية المتتالية. عند هذه النقطة، ينسحب غورينغ إلى مقره الريفي، "كارينهال"، حيث يعيش حياة مليئة بالبذخ والفساد . يصف موليتور هذه الحياة بأنها مزيج من:
نهب الفنون: حيث جمع غورينغ مجموعة فنية ضخمة من خلال عمليات النهب المنظمة.
شغف الصيد المفرط: الذي تجاوز الهواية ليعكس نزعة العظمة والتبديد.
البذخ والرفاهية المنحطة: التي أصبحت أكثر أهمية بالنسبة له من تهديدات القاذفات الحلفاء الحقيقية لألمانيا .
يشير موليتور إلى أن هذا الأسلوب الحياتي الباذخ ساهم في وقت لاحق في ظهور "تفسيرات مخففة" لدور غورينغ في النازية، حيث بدا للبعض وكأنه "صورة ودية" للنظام، وهو الوهم الذي يحاول الكتاب تفكيكه .
التحليل النقدي وأهمية الكتاب
نقاط القوة في السرد
يبرز الكتاب في عدة جوانب رئيسية:
الجمع بين السرد المشوق والتحليل الدقيق: يتميز الكتاب بأسلوب سردي مشوق يجمع بين "اللقطات القريبة" للأحداث والمواقف والتحليل الموضوعي القائم على أحدث المناقشات والأبحاث التاريخية، مما يجعله قريبًا من " اثر تنويري" .
تصحيح الصورة التاريخية: يسهم الكتاب بشكل فعال في تفكيك الصورة المخففة لغورينغ كمجرد شخصية "ودودة" أو "مسرفة". يؤكد موليتور على الطبيعة الباردة والمتعطشة للسلطة لغورينغ، مسلطًا الضوء على دوره الأساسي في الآلة القمعية للنظام .
توثيق آليات عمل النظام النازي: من خلال تتبع تركيز غورينغ غير المسبوق للسلطة، لا يقدم الكتاب فقط سيرة ذاتية لشخصية، بل يُظهر أيضًا آليات الحكم داخل الدولة النازية، وكيفية توزيع الصلاحيات والتنافس بين مراكز القوى المختلفة .
الانتقادات والتحديات
على الرغم من الإشادة العامة، وجهت بعض الانتقادات للكتاب، أهمها:
محاولات "التعاطف" أو التفسيرات السيكولوجية المبسطة: يشير الناقد دانيال سيمنز إلى أن الأجزاء التي يحاول فيها موليتور "التعاطف" مع غورينغ أو تفسير دوافه من خلال "التطبيع في مرحلة الطفولة المبكرة" هي الأضعف في الكتاب.
كما يبدو أن موليتور، رغم سرده التفصيلي لجرائم غورينغ، لم يتحرر تمامًا من صورة غورينغ كشخصية "أكبر من الحياة" . هذا النقد يسلط الضوء على التحدي الدائم الذي يواجه مؤرخي الشخصيات المروعة: كيفية تحليل دوافعهم وأفعالهم دون التخفيف من فظاعة جرائمهم.
تقييم
يقدم أندرياس موليتور في كتابه "Hermann Göring: Macht und Exzess" مساهمة تاريخية مهمة، تجمع بين الدقة الأكاديمية وأسلوب السرد الجذاب. لا يقتصر الكتاب على سرد حياة فردية، بل يقدم نافذة على آليات عمل النظام النازي من خلال تتبع مسار الرجل الثاني فيه.
قوة الكتاب الرئيسية تكمن في نجاحه في تفكيك الصورة الأسطورية المحيطة بغورينغ، مع تقديم تحليل متوازن يظهر تناقضاته: جشعه الذي لا يشبع للسلطة مقابل ولائه المطلق لهتلر، وتراكمه الهائل للمناصب مقابل فشله المتكرر في أداء العديد منها، وتورطه البارد في جرائم ضد الإنسانية مقابل انغماسه في حياة البذخ والتفاهة.
يبقى الكتاب، رغم بعض الانتقادات حول منهجية التحليل النفسي لبعض الجوانب، مصدرًا قيمًا للقارئ العام والمتخصص على حد سواء لفهم تعقيدات إحدى أكثر الشخصيات تأثيرًا وتدميرًا في التاريخ الحديث
0 تعليقات