"Deep Economy: The Wealth of Communities and the Durable Future" لبيل مكيبين
مقدمة عامة
صدر كتاب "Deep Economy: The Wealth of Communities and the Durable Future" للكاتب والبيئي البارز بيل مكيبين في عام 2007، ويقدم فيه نقداً جذرياً للنموذج الاقتصادي السائد القائم على فكرة "النمو اللانهائي" و"الزيادة المستمرة في الإنتاج والاستهلاك".
يدعو مكيبين إلى تحول جذري في طريقة تفكيرنا حول الاقتصاد، من نموذج قائم على الفردية والاستهلاك العالمي إلى نموذج يركز على المجتمع المحلي والاستدامة والرفاهية البشرية الحقيقية.
العنوان نفسه "الاقتصاد العميق" مستوحى من مفهوم "البيئة العميقة" الذي طوره الفيلسوف النرويجي أرني نايس في عام 1973، والذي يدعو إلى فهم العلاقة بين البشر والطبيعة على مستوى أعمق من الناحية الروحية والفلسفية، وليس مجرد العلاقة السطحية القائمة على المنفعة المادية .
الفكرة المركزية التي يدور حولها الكتاب هي أن "المزيد" لم يعد "أفضل"، بل إنهما أصبحا في كثير من الأحيان نقيضين.
فبعد قرون من النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي، وصلنا إلى نقطة لم يعد فيها النمو الاقتصادي بمفهومه التقليدي قادراً على زيادة سعادتنا أو رفاهيتنا، بل على العكس، أصبح مصدراً للكثير من المشكلات البيئية والاجتماعية والنفسية.
يكتب مكيبين: "لقد تجاوزنا النقطة التي كان فيها النمو مفيداً لنا، والآن نحن نعاني من عواقب هذا النمو غير المحدود" .
يستند مكيبين في حجته إلى مجموعة واسعة من الأدلة والإحصائيات والدراسات، وكذلك إلى تجارب واقعية من مختلف أنحاء العالم، ليظهر أن السعادة الإنسانية لم تزد مع زيادة النمو الاقتصادي، بل إنها في كثير من المجتمعات الغربية قد انخفضت على الرغم من النمو الهائل في الناتج المحلي الإجمالي والدخل الفردي.
ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، انخفضت مستويات السعادة المبلغ عنها باستمرار منذ عام 1950 على الرغم من أن الأمريكيين العاديين يعملون ساعات أكثر ويستهلكون سلعاً أكثر .
السياق التاريخي والفكري للكتاب
الجذور التاريخية لاقتصاد النمو
يرجع مكيبين بجذور هوسنا الحديث بالنمو الاقتصادي إلى الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وتحديداً إلى اختبار المحرك البخاري في عام 1712.
فقبل هذه الفترة، كانت المجتمعات البشرية تعيش في إطار اقتصادات محلية مستقرة إلى حد كبير، تنتج معظم ما تحتاجه محلياً وتستهلكه محلياً. لكن مع اختراع المحرك البخاري وبداية الثورة الصناعية، تغيرت المفاهيم والتصورات حول ما هو ممكن وما هو مرغوب فيه اقتصادياً.
لقد ولدت الثورة الصناعة عقلية جديدة قائمة على فكرة أن "المزيد هو دائماً أفضل"، وأن التوسع والإنتاج والاستهلاك المتزايدين هما الطريق الوحيد للتقدم والرفاهية .
من البيئة العميقة إلى الاقتصاد العميق
كما ذكرنا سابقاً، يستند مفهوم "الاقتصاد العميق" إلى مفهوم "البيئة العميقة" (Deep Ecology) الذي طوره الفيلسوف النرويجي أرني نايس في سبعينيات القرن العشرين.
بينما تركز البيئة السطحية (Shallow Ecology) على مكافحة التلوث واستنزاف الموارد من أجل صحة ورفاهية البشر في الدول المتقدمة، تدعو البيئة العميقة إلى إعادة تقييم جذرية لعلاقتنا مع العالم الطبيعي، معترفة بالقيمة المتأصلة لجميع الكائنات الحية بغض النظر عن فائدتها للبشر.
وبالمثل، فإن الاقتصاد العميق لا يهتم فقط بتحسين الكفاءة أو تقليل الآثار السلبية للنموذج الاقتصادي الحالي، بل يدعو إلى إعادة تعريف جذرية لمفاهيم الرفاهية والازدهار والثروة نفسها .
نموذج النمو الاقتصادي السائد
النمو الاقتصادي وعدم السعادة
يقدم مكيبين حجة قوية مفادها أن النمو الاقتصادي لم يعد يزيد من السعادة البشرية، مستشهداً بما يسمى "مفارقة السعادة".
فمن الناحية الإحصائية، ازداد الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى بشكل كبير منذ الخمسينيات، لكن مستويات السعادة المبلغ عنها ذاتياً لم ترتفع بل انخفضت في بعض الحالات.
فالأمريكيون يعملون ساعات أطول، ويعانون من مستويات أعلى من التوتر والقلق والاكتئاب، ويشعرون بالعزلة الاجتماعية على الرغم من أنهم يستهلكون سلعاً وخدمات أكثر من أي وقت مضى .
يكتب مكيبين: "لقد افترضنا أنه بما أن السعادة زادت مع الدخل في الماضي، فإنها ستستمر في الزيادة في المستقبل. لكن البيانات تظهر أننا تجاوزنا النقطة التي كان فيها النمو الاقتصادي يزيد سعادتنا، والآن نحن نعاني من عواقب هذا النمو غير المحدود" .
ويشير إلى أن الدول التي لديها أعلى مستويات السعادة ليست بالضرورة الأغنى، بل تلك التي لديها أقوى الروابط الاجتماعية والمشاركة المدنية والمساواة الاقتصادية النسبية.
التكاليف البيئية والخطر على المستقبل
يحذر مكيبين من أن نمط النمو الاقتصادي الحالي غير مستدام بيئياً، وسيؤدي إلى عواقب كارثية إذا استمر بنفس الوتيرة.
فاستنزاف الموارد الطبيعية، وخاصة الوقود الأحفوري، والتلوث البيئي، وتغير المناخ، كلها نتائج حتمية لنموذج اقتصادي قائم على النمو اللانهائي في عالم محدود الموارد.
ويشير إلى أن "التغير المناخي غير المحدود قد يجعلنا أفقر بنسبة 20٪ بنهاية القرن، وهو ما سيكون ضربة اقتصادية أكبر من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والكساد الكبير مجتمعين" .
كما ينتقد مكيبين بشدة النظام الزراعي الصناعي العالمي، الذي يساهم ليس فقط في التدهور البيئي ولكن أيضاً في تهديد الأمن الغذائي العالمي.
فاعتماد الزراعة الحديثة على النفط في الأسمدة والمبيدات والنقل يجعلها هشة وضعيفة أمام أي صدمات في إمدادات النفط. بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيز الإنتاج الغذائي في أيدي عدد قليل من الشركات العملاقة وفي مناطق محددة من العالم يزيد من مخاطر الأمراض المنقولة بالغذاء والتخريب الإرهابي المحتمل لإمدادات الغذاء المركزة .
التفكك الاجتماعي والعزلة الإنسانية
يرى مكيبين أن الاقتصاد العالمي المعولم قد أدى إلى تفكيك المجتمعات المحلية وإضعاف الروابط الاجتماعية بين الناس. ففي السعي وراء الكفاءة والنمو، أصبحنا أكثر عزلة وفردية، وفقدنا الشعور بالانتماء إلى مجتمع ملموس.
يصف مكيبين هذا التحول بأنه تحول من "الاقتصاد المجتمعي" إلى "اقتصاد الفرد"، حيث أصبح كل شخص مسؤولاً عن تلبية جميع احتياجاته من خلال السوق، وفقدنا القدرة على الاعتماد على جيراننا ومجتمعاتنا في تلبية الاحتياجات الأساسية .
ويكتب: "لقد أصبحنا 'مفرطي التحرر'... نحن بحاجة إلى أن نعتمد مرة أخرى على من حولنا من أجل شيء حقيقي".
هذا "التفرد المفاوض" - كما يسميه - قد زاد من شعورنا بالوحدة والعزلة، على الرغم من أننا أكثر اتصالاً تقنياً من أي وقت مضى . فالمجتمعات التقليدية التي كانت توفر شبكة أمان اجتماعي وروابط إنسانية عميقة قد تم استبدالها بعلاقات سوقية مجردة ومؤقتة.
رؤية مكيبين للاقتصاد العميق والحلول المقترحة
التحول من العالمي إلى المحلي
الحل الأساسي الذي يقدمه مكيبين هو التحول من الاقتصاد العالمي إلى الاقتصاد المحلي، من خلال إعادة بناء الاقتصادات المحلية والمجتمعات المترابطة.
فهو يدعو إلى "اقتصاد الجيرة" (economics of neighborliness) حيث تنتج المدن والضواحي والمناطق المزيد من طعامها وتولد المزيد من طاقتها وتخلق المزيد من ثقافتها وترفيهها محلياً .
هذا التحول نحو الاقتصاد المحلي لا يعني العزلة أو الانكفاء على الذات، بل يعني بناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة وارتباطاً بالاحتياجات الحقيقية للمجتمعات.
فبدلاً من استيراد الطعام من نصف الطريق حول العالم، يمكن للمجتمعات تطوير أنظمتها الغذائية المحلية، وبدلاً من الاعتماد الكامل على الوقود الأحفوري، يمكنها تطوير مصادر الطاقة المتجددة المحلية.
أمثلة على مبادرات الاقتصاد المحلي
يقدم مكيبين العديد من الأمثلة الواقعية لمبادرات الاقتصاد المحلي التي تنجح في مختلف أنحاء العالم، ومنها:
الزراعة المدعومة من المجتمع (Community Supported Agriculture): حيث يشتري الأفراد حصصاً من مزارع محلية، ويحصلون على منتجات طازجة وموسمية بشكل منتظم، بينما يدعمون المزارعين المحليين ويضمنون استمرارية الزراعة المستدامة.
أسواق المزارعين في فيرمونت: حيث يصف مكيبين بتفصيل vivid تجربته في قضاء شتاء كامل وهو يستهلك فقط الأطعمة المزروعة محلياً في فيرمونت، معترفاً بأن هذا قد يكون أسهل في فيرمونت الريفية مما هو في المناطق الحضرية حيث يعيش 80٪ من الأمريكيين .
العملات المحلية: مثل "بوركشيرز" (BerkShares) في ماساتشوستس، التي تشجع المعاملات الاقتصادية داخل المجتمع المحلي وتحافظ على الثروة داخل المنطقة.
مشاريع الطاقة المجتمعية: حيث تقوم المجتمعات بتطوير وتشغيل مشاريع الطاقة المتجددة الخاصة بها، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتلبية احتياجاتها المحلية.
تعاونيات الإسكان: حيث يعيش الناس في مساكن متقاربة ويشاركون المرافق والمساحات المشتركة، مما يقلل من البصمة البيئية ويعزز الروابط الاجتماعية.
إعادة تعريف الرفاهية والثروة
يدعو مكيبين إلى إعادة تعريف مفهومي الرفاهية والثروة، من التركيز على الثروة المادية والملكية الفردية إلى التركيز على الرفاهية المجتمعية والعلاقات الإنسانية والاستدامة.
فبدلاً من قياس تقدم المجتمع من خلال الناتج المحلي الإجمالي فقط، الذي يقيس حجم النشاط الاقتصادي بغض النظر عن قيمته الاجتماعية أو البيئية، يقترح مؤشرات أخرى تركز على الجوانب النوعية للحياة، مثل الصحة والتعليم والروابط المجتمعية والصحة البيئية .
الجدول التالي يلخص الفروق الرئيسية بين النموذج الاقتصادي السائد ونموذج الاقتصاد العميق:
الاقتصاد السائد (نموذج النمو) | الاقتصاد العميق (نموذج الاستدامة) |
---|---|
التركيز على الكمية (المزيد هو أفضل) | التركيز على النوعية (الأفضل هو الأفضل) |
الهدف: زيادة الناتج المادي | الهدف: إنتاج satisfaction البشري |
منظور قصير الأجل | منظور طويل الأجل واهتمام بالمتانة |
اقتصاد عالمي ومعولم | اقتصاد محلي ومجتمعي |
الفردية والاستهلاك | المجتمع والتعاون |
النمو اللانهائي | الاستدامة والاستقرار |
الثروة المادية كمقياس وحيد للنجاح | الرفاهية الشاملة كمقياس للنجاح |
انتقادات وتقييمات للكتاب
ردود النقاد على الكتاب
على الرغم من الترحيب الواسع بأفكار مكيبين، فقد تعرض الكتاب لبعض الانتقادات من قبل عدد من النقاد. فقد وصف البعض أفكاره بأنها مثالية وحالمة، وخاصة في ظل هيمنة النظام الاقتصادي العالمي الحالي وتعقيداته.
فقد كتب الناقد لانس مورو في نيويورك تايمز أن رؤية مكيبين "مشبعة ببعض Vermontlichkeit (طابع فيرمونت) المعين"، في إشارة إلى أن أفكاره قد تكون أكثر قابلية للتطبيق في مجتمعات ريفية صغيرة مثل فيرمونت حيث يعيش مكيبين، وأقل قابلية للتطبيق في المناطق الحضرية الكبيرة حيث يعيش معظم السكان .
كما يشكك بعض النقاد في إمكانية تطبيق نموذج الاقتصاد المحلي على نطاق واسع، ويجادلون بأن العولمة لها فوائدها أيضاً، مثل خفض تكاليف الإنتاج وتوسيع نطاق الوصول إلى السلع والخدمات للفقراء.
ففي بعض الحالات، قد يكون الإنتاج المركزي على نطاق واسع أكثر كفاءة وأقل تكلفة للمستهلكين، وخاصة لأولئك ذوي الدخل المحدود .
رد مكيبين على الانتقادات
يرد مكيبين على هذه الانتقادات بالقول إن ما يبدو "حالمياً" و"مثالياً" هو في الواقع الإصرار على استمرار النموذج الاقتصادي الحالي في ظل العواقب البيئية والاجتماعية الواضحة.
فهو يكتب: "في ضوء اتجاهات الظواهر مثل الاحترار العالمي وإمدادات النفط، ما هو حالم وعاطفي هو الإصرار على أننا نواصل فعل ما نفعله الآن لمجرد أنه مألوف" .
كما يشير إلى أن نمط الحياة في الضواحي الأمريكية عالية الجودة هو بالضبط ما "يفسدنا"، وأن البديل الذي يقترحه - وهو محلية ذكية ومسؤولة اجتماعياً وغير أيديولوجية - "قد يوفر بشكل أفضل سلعاً مثل الوقت والأمان التي نعاني من نقص فيها" .
مستقبل الاقتصاد العميق
يختم مكيبين كتابه بتقديم سيناريو واقعي، وإن كان صعباً، لمستقبل أكثر تفاؤلاً. فهو يعترف بأن الانتقال إلى الاقتصاد العميق لن يكون سهلاً، ويتطلب تغييرات جذرية في السياسات والثقافة والسلوك الفردي.
لكنه يعتقد أن الفوائد المحتملة - كوكب أكثر صحة، ومجتمعات أقوى، وحياة أكثر معنى - تجعلها هدفاً يستحق السعي من أجله .
التحول الذي يدعو إليه مكيبين ليس مجرد تحول اقتصادي تقني، بل هو تحول ثقافي وقيمي في الأساس. فهو يدعو إلى إعادة اكتشاف "إنسانيتنا الأساسية" من خلال إعادة بناء اقتصاداتنا على مستوي إنساني.
وكما يكتب بشكل متوازن: "كلما رعينا الإنسانية الأساسية لاقتصادنا، كلما استعدنا أنفسنا" .
على الرغم من مرور أكثر من عقد على نشر الكتاب، فإن أفكار مكيبين لا تزال حاضرة بل أصبحت أكثر إلحاحاً في ظل تفاقم أزمة المناخ وتزايد عدم المساواة الاقتصادية والشعور بالعزلة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة.
لقد أصبحت الدعوة إلى إعادة تصور الاقتصاد ليس كآلة للنمو غير المحدود، بل كأداة لتعزيز الرفاهية البشرية والاستدامة البيئية، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
يظل كتاب "Deep Economy" مساهمة أساسية في النقاش المستمر حول مستقبل اقتصادنا وكوكبنا، ويقدم رؤية ملهمة لما يمكن أن يكون عليه العالم إذا اخترنا إعطاء الأولوية للجودة على الكمية، وللمجتمع على الفرد، وللمستقبل durable على الربح الفوري
0 تعليقات