"عطيل" لوليم شكسبير
الغيرة والهوية والصراع الإنساني
الخلفية التاريخية والأدبية للمسرحية
كُتبت مسرحية "عطيل" (Othello) بين عامي 1603-1604 ، وتُعد من أعمق المآسي الشكسبيرية.
تستند إلى قصة إيطالية بعنوان "كابتن مغاربي" (Un Capitano Moro) من مجموعة قصص لـجوفاني باتيستا جيرالدي سينثيو (1565) .
نقل شكسبير القصة من النثر إلى الدراما الشعرية، معززًا تعقيد الشخصيات ورسمًا دقيقًا للصراع النفسي. تدور أحداث المسرحية بين البندقية وقبرص، في سياق الصراع بين جمهورية البندقية والدولة العثمانية، ما يضفي واقعية تاريخية على العمل .
التعقيد والتناقض
عُطيل (Othello):
مورو مغربي، قائد عسكري مرموق في جيش البندقية، يُوصف بالشجاعة والحكمة، لكنه يحمل عيبًا قاتلًا: الغيرة المرضية .
يمثّل صورة المُهاجر المُهمَّش رغم مكانته؛ فوصفه أعداؤه بـ"الجواد البربري" و"المغربي الأسود"، ما يُظهر العنصرية الكامنة في المجتمع .
حياته السابقة كـعبدٍ تم تحريره ومحاربٍ صقلوي تُبرر هشاشته النفسية .
ياغو (Iago):
حامل الراية في الجيش، ومهندس المأساة. شخصيته تجسّد الشرّ العقلاني الذي يُخطّط بدقة .
دوافعه متشابكة: الانتقام لترقية كاسيو بدلًا منه، والشك بأن زوجته إميليا على علاقة بعطيل، واللذة السادية بتدمير الآخرين .
مقولته الشهيرة: "أنا لست ما أنا عليه" تعكس نفاقه وتعدد وجوهه .
ديدمونة (Desdemona):
ابنة السيناتور برابانتيو، تجسّد البراءة والإنسانية. تحب عطيل لـعقله وشجاعته لا لمظهره: "رأيت عقل عطيل لا وجهه" .
تمردها على أبيها بالزواج السري يُظهر قوة إرادتها، لكنها تتحول لـضحية سلبية في النهاية .
كاسيو (Cassio):
الملازم الشاب الوسيم، ضحية مؤامرة ياغو. يمثّل الفضيلة والولاء، لكن سُكرَه يُستخدم كأداة لتشويه سمعته .
إميليا (Emilia):
زوجة ياغو ووصيفة ديدمونة. شخصيتها تتطور من الخنوع إلى التمرد عندما تكشف مؤامرة زوجها، مما يكلفها حياتها .
ملخص الأحداث: تفكيك المؤامرة فصلًا فصلًا
الفصل الأول: البذور الأولى للدمار
المشهد الافتتاحي: يشتكي رودريغو (نبيل بندقي) لياغو عن زواج ديدمونة من عطيل. يكشف ياغو عن كراهيته لعطيل لترقيته كاسيو لمنصب الملازم بدلًا منه .
اختطاف ديدمونة؟: يُقنع ياغو رودريغو بإيقاظ والد ديدمونة، برابانتيو، واتهام عطيل بـالسحر لخطف ابنته. يتحول المشهد لمجلس الشيوخ حيث يُواجه عطيل التهم .
الاعتراف بالحب: تظهر ديدمونة لتؤكد حبها لعطيل: "أحببت هذا الرجل لشجاعته، لا لسحره!". يُبرّئ الدوق عطيل ويُرسله لـقتال الأتراك في قبرص .
الفصل الثاني: بداية تنفيق المؤامرة
الوصول إلى قبرص: تدمر عاصفة الأسطول العثماني، فيُعلن عطيل احتفالًا بالنصر. يغادر لقضاء ليلته مع ديدمونة .
تدمير كاسيو: يُسقِي ياغو كاسيو حتى الثمالة، ويُحرّض رودريغو على استفزازه. يشتعل شجار يطعن خلاله ياغو مونتانو (حاكم قبرص السابق) .
العقاب الجائر: يُجرد عطيل كاسيو من رتبته. ينصحه ياغو باللجوء لديدمونة لاستعطاف عطيل، وهو ما يُشكل أول حبكة في زرع الشك .
الفصل الثالث: تحول الغيرة إلى هوس قاتل
المنديل السحري: يَسرق ياغو منديل ديدمونة (أول هدية من عطيل لها) عن طريق زوجته إميليا، ويضعه في غرفة كاسيو. يصف شكسبير المنديل كـأيقونة سحرية: "صُنع من حرير ديدان قز مقدسة، وصبغته قلوب عذارى!" .
تلاعب نفسي: يُقنع ياغو عطيل بأن ديدمونة تخونه مع كاسيو، مستخدمًا دفاعها عنه كـ"دليل": "لم يعد أمينًا؟" يسأل عطيل، فيهمس ياغو: "احذر الغيرة.. الوحش الأخضر العينين!" .
نوبة الصرع: يصل عطيل لذروة الهيستيريا فيصاب بنوبة صرع، بينما تشكو ديدمونة لإميليا من تغير زوجها .
الفصل الرابع: التمهيد للمأساة
الإهانة العلنية: يصفّع عطيل ديدمونة أمام مبعوث البندقية لودوفيكو، مُظهرًا تحول كراهيته لعارٍ عام .
خداع السمع: يُنظم ياغو حديثًا بين كاسيو وعشيقته بيانكا، ويُوهم عطيل أنه يتحدث عن علاقته بديدمونة .
تخطيط القتل: يطلب عطيل من ياغو قتل كاسيو، بينما يُقنع ياغو رودريغو بقتل كاسيو ليبعده عن ديدمونة .
الفصل الخامس: النهاية الدموية
مقتل ديدمونة: يدخل عطيل غرفة نوم زوجته النائمة ويخنقها رغم توسلاتها: "اقتلني غدًا.. دعني أعش الليلة!". عندما تنفي خيانته، يصرّ: "لقد خانتي.. يجب أن تموتي!" .
فضح المؤامرة: تكشف إميليا سر ياغو، فيطعنها زوجها لتموت. يُدرك عطيل براءة ديدمونة فيصرخ: "يا دماءَ ديدمونة البكر!" .
الانتحار والعدالة: يطعن عطيل ياغو (دون قتله)، ثم ينتحر بسكين خفي: "اقتلوني قبل أن يحترق حبي أكثر.. هكذا يُقبِّل الموت!". يُنفى ياغو، ويتولى كاسيو حكم قبرص .
ما وراء القصه
الغيرة كمرض وجودي:
تتحول غيرت عطيل من شك طبيعي إلى هوس تدميري، يوصف بـ"الوحش الأخضر العينين الذي يهزأ بطعامه" .
يُقارن شكسبير بين غيرتي عطيل وياغو: واحدة عاطفية وأخرى عقلانية، لكن كلتيهما تقودان للخراب .
العنصرية والهوية:
يُذكر عطيل دائمًا بـ"المغربي" أو "الأسود"، رغم منصبه. حتى ديدمونة تُلام لزواجها خارج عرقها .
حوار برابانتيو مع الدوق: "أتُصدق أن سحنةً سوداء كالفحم تُغري فتاة بيضاء؟!" يكشف تحيزات العصر .
الخيانة بمستوياتها:
خيانة الولاء (ياغو لعطيل).
خيانة الزواج (المزعومة بين ديدمونة وكاسيو).
خيانة الصداقة (ياغو لرودريغو) .
المرأة بين التميز والهشاشة:
ديدمونة وإميليا تمثلان قوة الإرادة (تمرد الأولى على أبيها، وفضح الثانية لزوجها)، لكن المجتمع الذكوري يحولهما لـضحايا .
السياق التاريخي والاجتماعي
كُتبت المسرحية في عصر الملك جيمس الأول، حيث كان الخوف من الأجانب سائدًا في إنجلترا. شخصية عطيل تعكس صورة "الآخر" المهدد .
الحرب مع الدولة العثمانية (1571 معركة ليبانت) تُستخدم كخلفية لتعزيز القلق الأوروبي من التوسع الإسلامي .
يُعتقد أن شكسبير استلهم شخصية عطيل من السفراء المغاربة الذين زاروا لندن في القرن 16، خاصةً "عبد الواحد بن مسعود" .
الابتكارات الفنية في المسرحية
تعدد الأصوات الشعرية: يغلب على عطيل النثر العسكري المباشر، بينما تتكلم ديدمونة بـأبيات غنائية رقيقة، ويعتمد ياغو على السخرية السوداء .
المنديل كرمز متعدد الدلالات: يمثل الحب (هدية عطيل)، البراءة (فقدان ديدمونة له)، الخيانة (استخدامه كدليل مزيف) .
الفضاء الدرامي: انتقال الأحداث من البندقية (مدينة القانون) إلى قبرص (جزيرة العواصف والعزلة) يُحاكي انهيار استقرار عطيل النفسي .
في الأدب والفن
ألهمت عشرات الأعمال مثل:
أوبرا فيردي "عطيل" (1887).
لوحة "خنق ديدمونة" لديلاكروا.
أفلام مثل "O" (2001) الذي ينقل الصراع لمدرسة ثانوية أمريكية .
شخصية ياغو تُعدّ النموذج الأبرز للشرير في الأدب العالمي، تأثيرها يمتد من "ملفي" في ماكبث إلى "جوكر" في الباتمان .
في العالم العربي، قدّم خليل مطران ترجمة شعرية للمسرحية، كما عُرضت في مسرح يوسف وهبي بمصر (1949) .
الأسئلة الفلسفية التي تثيرها المسرحية
- هل الدمار قدر الشخصيات أم صناعة أيديهم؟عطيل ليس ضحية ياغو فقط، بل ضعفه الداخلي هو ما جعل المؤامرة ناجحة.
- هل الحب الحقيقي يقاوم السموم الاجتماعية؟حب عطيل وديدمونة ينتصر على العنصرية لكنه يسقط أمام الشك الذاتي.
- كيف يُصبح المخلص جلادًا؟يتحول عطيل من مدافع عن البندقية إلى قاتل لزوجته، ما يطرح سؤالًا عن هشاشة الفضيلة .
عطيل
"عطيل" مرآة جيده للمجتمعات الحديثة:
الغيرة المرضية في عصر وسائل التواصل.
العنصرية المقنعة رغم خطاب التسامح.
- تلاعب الأخبار الكاذبة (يمثله ياغو) في السياسة المعاصرة.شكسبير يذكرنا أن الوحش الأخضر العينين لا يزال بيننا، لكنه قد يرتدي اليوم قناعًا رقميًا. المسرحية تحذر: "الدمار يبدأ حين تستبدل الثقة بالشك، والحوار بالإدانة" .
"يا من أنت، أيها الموت؟ شرطي، أم طاغية؟ أنا أستدعيك من الظلمات.. لكنك لستَ إلا خادمًا للخائفين!"— عطيل في المشهد الأخير، ترجمة خليل مطران
ملخصات لكل أعمال شكسبير المسرحية والتاريخية والشعرية
0 تعليقات