تاريخ الحرب البيلوبونيزية لثوسيديدس
بترجمة ريكس وارنر وتعليق م.آي. فينلي
أهميته التاريخية
"تاريخ الحرب البيلوبونيزية" (431–404 ق.م) للكاتب والمؤرخ الإغريقي ثوسيديدس (حوالي 460–400 ق.م) أحد الأعمال التأسيسية في مجال التاريخ العلمي.
دوّنها، بصفته جنرالاً أثينياً شارك في الحرب، الأحداث المعاصرة بدقة متناهية، متجنباً الأساطير والانحيازات العاطفية، بهدف إنشاء "ملكية للدهر" – سرداً خالداً يخدم الأجيال القادمة.
يغطي العمل الصراع الطويل بين قوتين عظميين: الحلف البيلوبونيزي بقيادة إسبرطة، والحلف الديلي بقيادة أثينا، وينتهي فجأة عام 411 ق.م دون إنهاء الحرب، مما يشير إلى وفاة المؤلف قبل إكماله.
ترجمة ريكس وارنر (1954) هي الأكثر انتشاراً باللغة الإنجليزية، وتُعزز بمدخل تحليلي من المؤرخ م.آي. فينلي، الذي يسلط الضوء على منهجية ثوسيديدس وعلاقتها بالسياسة الحديثة.
الثورة في كتابة التاريخ
1. الموضوعية
رفض تدخل الآلهة أو "القدر" كتفسير للأحداث (عكس سلفه هيرودوت)، وركز على العوامل البشرية: الطموح، الخوف، المصلحة، والهوية. أكد أن الحرب اندلعت بسبب "نمو قوة أثينا والخوف الذي أثاره ذلك في إسبرطة".
2. التسلسل الزمني الدقيق
قسّم الأحداث حسب السنة الصيفية والشتوية، مبتكراً نظاماً زمنياً صارماً ميزه عن المؤرخين السابقين. سجل الحملات العسكرية في الصيف، والمفاوضات الدبلوماسية في الشتاء.
3. توظيف الخطب كأداة تحليلية
ضمّن ثوسيديدس خطباً مطوّلة للقادة (مثل بريكليس وألكيباديس) ليس كسرد حرفي، بل كأداة لتوضيح الدوافع السياسية والنفسية. أشهرها:
خطبة بريكليس الجنائزية (الكتاب الثاني): تمدح الديمقراطية الأثينية وقيم المساواة، لكنها تبرر الإمبريالية الأثينية بـ"الخوف، الشرف، المصلحة".
حوار الميليان (الكتاب الخامس): نقاش صريح بين أثينا وسكان ميلوس يظهر الواقعية السياسية: "الأقوياء يفعلون ما يستطيعون، والضعفاء يعانون ما يجب".
4. نقد المصادر والأساطير
استخدم مصادراً أولية (شهود عيان، وثائق) وتحقق منها، متحفظاً في استخدام الأعمال الأدبية مثل أشعار هوميروس، قائلاً: "هذا إن كان هوميروس دليلاً كافياً".
الاختلاف بين منهجية ثوسيديدس وهيرودوت:
المعيار | ثوسيديدس | هيرودوت |
---|---|---|
دور الآلهة | غير موجود | محوري |
التحقق من الحقائق | صارم، نقدي | أقل دقة، يعتمد على الروايات |
التسلسل الزمني | سنوي (صيف/شتاء) | سردي، غير منتظم |
الهدف | تحليل أسبابي للأحداث | تسجيل "العجائب" والحكايات |
الحرب والطبيعة البشرية
1. أخلاقيات القوة
أثينا: تبرر إمبراطوريتها بالحاجة للأمن (الخوف) ثم بالطموح (الشرف، المصلحة)، مدعية أن "قبول الإمبراطورية كان طبيعة بشرية".
إسبرطة: تمثل التقليد والحذر، لكنها تتبنى العنف عند تهديد مصالحها.
التوسع الأثيني في صقلية (الكتب 6-7): مثال على الغطرسة الإمبريالية (هوبريس) التي أدت لهزيمة كارثية عام 413 ق.م.
2. الأخلاق والمجتمع
وصف ثوسيديدس كيف تحطمت القيم الإغريقية خلال الحرب:
الطاعون الأثيني (430 ق.م): أدى إلى انهيار النظام الاجتماعي، حيث "لم يعد أحد يخشى الآلهة أو القانون".
الثورة في كوركيرا (427 ق.م): صراع داخلي بين الديمقراطيين والأوليغارشية، كشف عن همجية البشر عندما تختفي القيود الأخلاقية.
3. البحرية أساس للإمبراطورية
أكد ثوسيديدس أن القوة البحرية هي ركيزة الهيمنة، مستشهداً بتطوير السفن الثلاثية (triremes) وتفوق أثينا البحري. أثر هذا التحليل على المنظرين الاستراتيجيين الحديثين مثل ألفريد ماهان .
4. الصراع بين العدالة والضرورة
في حوار الميليان، ترفض أثينا محاكمة العدالة وتعلن: "البقاء للأقوى".
ومع ذلك، يسجل ثوسيديدس معاناة الضعفاء (كسكان ميلوس) بتعاطف، مظهراً تناقضه بين الواقعية والتعاطف الإنساني .
الأحداث المحورية في الكتب الثمانية
الكتاب | الأحداث الرئيسية | التحليل |
---|---|---|
1 | أسباب الحرب: توسع أثينا، حصار إبيدامنوس، مؤتمر إسبرطة | تحليل "الأسباب الحقيقية": الخوف من القوة |
2 | خطبة بريكليس، طاعون أثينا، وفاة بريكليس | بداية انهيار القيادة الأخلاقية |
3 | تمرد ميليان، فظائع كوركيرا | تفكك الأخلاق في الحرب الأهلية |
4–5 | حملات براسيداس، هدنة نيسياس، حوار الميليان | صعود الواقعية السياسية |
6–7 | الحملة الصقلية: غزو أثينا، هزيمتها الكارثية | الغطرسة (هوبريس) والعقاب الإلهي؟ |
8 | الثورة في أثينا، تحالف إسبرطة مع فارس | نهاية غير مكتملة، إرهاصات هزيمة أثينا |
توقف الكتاب فجأة عام 411 ق.م أثناء وصف معركة بحرية، مما يشير إلى موت المؤلف .
ريكس وارنر وفينلي
أسلوب وارنر في الترجمة
حافظ ريكس وارنر (1954) على الصلابة والوضوح في نثر ثوسيديدس، متجنباً التزويق الرومانسي. نقل الجدل الفلسفي في الخطب بلغة سياسية حديثة، مما جعل العمل في متناول القارئ المعاصر دون التضحية بالتعقيد. (مصادر)
إسهامات فينلي التحليلية
في مقدمته، يربط م.آي. فينلي بين الحرب البيلوبونيزية وصعود الواقعية السياسية في القرن العشرين:
"ما يزال ثوسيديدس يخاطبنا لأن صراع القوى، أخلاقيات الحرب، وخطاب الإمبريالية لم تتغير جوهرياً".كما حلل دور الديمقراطية المباشرة في قرارات أثينا الكارثية (مثل حملة صقلية)، مقارناً إياها بمخاطر الشعبوية الحديثة.
الجدل الأكاديمي
1. الموضوعية أم الانحياز؟
المدرسة التقليدية (مثل جي.بي. بوري): رأت العمل "موضوعياً، خالياً من الأحكام الأخلاقية".
النقاد الحديثون (مثل إرنست باديان): اتهموا ثوسيديدس بـالانحياز لأثينا، خاصة في تصويره لكليون (زعيم أثيني ديماغوجي) كشخصية كاريكاتورية .
2. تاريخ أم أدب؟
اعترف ثوسيديدس نفسه أنه أعاد صياغة الخطب وفقاً لـ"ما بدا مناسباً للموقف" . بعض الباحثين (مثل كونر) يرونها أعمالاً أدبية تهدف لتوضيح الرؤى الفلسفية أكثر من كونها تسجيلات دقيقة.( مصادر )
3. تجاهل الثقافة والفن
اختار ثوسيديدس التركيز على العسكرة والسياسة، متجاهلاً الإنجازات الثقافية لأثينا في عصر بريكليس (مثل البارثينون)، مما يعكس أولوياته في تحليل القوة.
تأثير المؤلف
1. التاريخ كعلم تحليلي
وضع ثوسيديدس معايير لـالمنهجية التاريخية القائمة على التحقق، والنقد، والسببية البشرية، مؤثراً في مؤرخين من مكيافيلي إلى الحداثيين.
2. العلاقات الدولية
أصبحت أفكاره، خاصة معضلة ثوسيديدس (خوف القوى القائمة من صعود منافس)، إطاراً لتفسير صراعات مثل التوتر بين الولايات المتحدة والصين.
3. أخلاقيات الحرب
تسجيله لـانحلال الأخلاق خلال الأزمات يحذر من عواقب التخلي عن الإنسانية، كما يقول توم هولاند:
"يُسقط الكتاب أي تصور أن فظائع التاريخ الحديث شذوذ... فهو يحكي عن حرب شاملة، إرهاب، وثورة".
4. الأدب والفكر الغربي
ألهمت واقعيته كتاباً من توماس هوبز (الذي ترجم العمل عام 1629) إلى ألبرت كامو، كما أثرت خطبه في أسلوب السياسيين الحديثين.
التاريخ و الحاضر
"هو استكشاف للطبيعة البشرية في مواجهة الصراع. عبر ريكس وارنر وفينلي، يظل هذا العمل متاحاً كتحذير من إغراءات القوة، وهشاشة الحضارة، والأبعاد الأخلاقية للسياسة. كما يختتم فينلي:
"ما يزال ثوسيديدس معاصراً لأن أسئلته – عن العدالة، القوة، والحرية – لم تُجب بعد".
هذا الملخص يغطي الأبعاد الرئيسية للعمل، لكن الغوص في النص نفسه (خاصة في ترجمة وارنر) سيكشف تعقيداتٍ أعمق، تؤكد لماذا يُعتبر هذا الكتاب "ملكية للدهر
0 تعليقات