"الملك جون" لوليم شكسبير: السلطة، الخيانة، وصراع الشرعية
مقدمة: السياق التاريخي والأدبي للمسرحية
تعد مسرحية "حياة وموت الملك جون" (The Life and Death of King John) واحدة من أبرز المسرحيات التاريخية التي كتبها وليم شكسبير في منتصف تسعينيات القرن السادس عشر (حوالي 1596)، ونُشرت لأول مرة في عام 1623.
تُصور المسرحية فترة حكم الملك جون (1199–1216)، ابن الملك هنري الثاني، الذي اشتهر تاريخيًا بتوقيعه "ميثاق الحريات العظيم" (الماغنا كارتا) عام 1215، لكن شكسبير يركز على الصراعات السياسية والدينية التي شهدها عهده، مثل تمرد البارونات، صراعه مع الكنيسة الكاثوليكية، وحربه مع فرنسا.
تختلف هذه المسرحية عن غيرها من مسرحيات شكسبير التاريخية (مثل "هنري الرابع" أو "ريتشارد الثالث") لأنها لا تقدم حركة تاريخية ناجحة، بل تركز على الخاتمة الأخلاقية لفشل الحكم الاستبدادي، مما يجعلها دراسة نفسية وسياسية عميقة.
الفصل الأول: الخلفية التاريخية للملك جون
الملك جون، الذي حكم إنجلترا من 1199 حتى وفاته في 1216، واجه تحديات جسيمة:
الصراع مع الكنيسة: أدى رفضه الاعتراف بسيادة البابا إنوسنت الثالث على إنجلترا إلى حرمانه كنسيًا، مما أضعف شرعيته السياسية.
التمرد الداخلي: فرض ضرائب باهظة على البارونات لتمويل حروبه الفاشلة في فرنسا، مما دفعهم إلى التمرد ومطالبته بتوقيع الماغنا كارتا عام 1215، التي قلصت صلاحياته المطلقة.
فشل عسكري: خسارة معظم الأراضي الإنجليزية في فرنسا، مثل نورماندي وأنجو، مما أثر على هيبته كقائد.
في المسرحية، يستلهم شكسبير هذه الأحداث لكنه يضيف عناصر درامية، مثل شخصية فيليب فالكونبريدج (ابن ريتشارد قلب الأسد غير الشرعي)، لتعميق الصراع العائلي والسياسي.
الشخصيات الرئيسية وتحليلها
1. الملك جون
يمثل السلطة الهشة التي تعتمد على الخداع. يرفض مطالب فرنسا بتنازله عن العرش لصالح ابن أخيه آرثر، لكنه يظهر ترددًا وضعفًا في مواجهة البابا والبارونات. شخصيته تجسد التناقض بين الكفاءة العسكرية والافتقار إلى الحكمة السياسية.
2. فيليب فالكونبريدج
الابن غير الشرعي لريتشارد قلب الأسد، وهو البطل الأخلاقي في المسرحية. يرفض الانغماس في المؤامرات، ويدافع عن إنجلترا بشجاعة. شكسبير يستخدمه لنقد شرعية النسب الملكي، حيث يقول:
"لن يكون في العالم شيء يضرنا، مادامت إنجلترا مخلصة لنفسها".
3. آرثر
ابن أخ جون والمطالب الشرعي بالعرش. يرمز إلى البراءة الضائعة في الصراع على السلطة. مشهد محاولة هيوبرت حرق عينيه (الفصل الرابع) يسلط الضوء على قسوة السياسة، لكن هيوبرت يرحمه في النهاية.
4. الكاردينال باندولف
ممثل البابا، يجسد تغلغل الكنيسة في السياسة. يعلن حرمان جون كنسيًا ويحرض فرنسا وبارونات إنجلترا ضده، مما يكشف عن استخدام الدين كأداة للهيمنة.
ملخص تفصيلي للحبكة
الفصلان الأول والثاني: صراع الشرعية والحرب
تبدأ المسرحية بمواجهة بين جون وسفير فرنسا، الذي يطالبه بالتنازل عن العرش لآرثر، الوريث الشرعي.
يُكشف عن شخصية فيليب فالكونبريدج، الذي يثبت شرعيته كابن لريتشارد قلب الأسد ويصبح حليفًا لجون.
تشن فرنسا بقيادة الملك فيليب حربًا على إنجلترا بدعم من النمسا. تقترح بلانش (ابنة أخت جون) زواجها من لويس ولي عهد فرنسا لتحقيق السلام، لكن هذا الزواج يفشل في منع الحرب.
الفصل الثالث: الخيانة وصراع الكنيسة
يرفض جون تعيين رئيس أساقفة كانتربيري الذي يختاره البابا، فيحرَم كنسيًا.
الكاردينال باندولف يحرض فرنسا على غزو إنجلترا.
يُقتل دوق النمسا في المعركة، ويأسر جون آرثر، ثم يأمر خادمه هيوبرت بقتله.
الفصل الرابع: الأزمة الأخلاقية
هيوبرت لا يقتل آرثر، لكن الأخير يموت أثناء محاولته الهرب.
يتوج جون ملكًا مرة ثانية، لكن البارونات يتمردون عليه لاعتقادهم أنه قتل آرثر.
تموت الملكة الأم إليانور، وتغزو فرنسا إنجلترا.
الفصل الخامس: الخاتمة التراجيدية
يصالح جون البابا ليكسب دعمه ضد فرنسا، لكنه يُسمم على يد راهب.
ينقلب البارونات ضد فرنسا بعد اكتشافهم خطة لويس لخداعهم.
يموت جون من السم، ويتولى ابنه هنري الثالث العرش وسط دعوة للوحدة الوطنية.
الموضوعات المركزية في المسرحية
1. شرعية السلطة
تسائل المسرحية مفهوم "الحق الإلهي" للملوك:
جون يستولي على العرش رغم أحقية آرثر.
فيليب، الابن غير الشرعي، يثبت أهليته عبر إخلاصه لإنجلترا.
"السلطة لا تُورث، بل تُكتسب بالفضيلة".
2. الدين كأداة سياسية
البابا يستخدم الحرمان الكنسي كسلاح لإجبار جون على الخضوع.
جون يتصالح مع الكنيسة عندما يحتاجها، مما يكشف نفاق السلطة.
3. التناقض بين المظهر والجوهر
بلانش تتزوج لويس لتحقيق السلام، لكن زواجها يتحول إلى أداة حرب.
البارونات يثورون على جون باسم الأخلاق، لكنهم يتحالفون مع فرنسا التي تخطط لخداعهم.
4. الوطنية في مواجهة الفوضى
شخصية فيليب تمثل الوفاء للوطن فوق الولاءات الشخصية. خطابه الأخير:
"لن يكون في العالم شيء يضرنا، مادامت إنجلترا مخلصة لنفسها"يشكل الرسالة الخالدة للمسرحية.
الخصائص الفنية والأسلوب الأدبي
البنية الدرامية: تخلو المسرحية من البطل التقليدي، وتقدم شخصيات معقدة تدفع الأحداث عبر خيارات أخلاقية غامضة.
اللغة: تستخدم خطابات سياسية مركبة، خاصة في مشاهد المفاوضات، بينما تتسم حوارات فيليب بالصراحة والواقعية.
الرمزية:
موت آرثر: يمثل سقوط البراءة أمام طموحات السلطة.
السم: يشير إلى تآكل السلطة من الداخل.
مقارنة مع المسرحيات التاريخية الأخرى لشكسبير
المسرحية | المحور الرئيسي | نهاية البطل |
---|---|---|
الملك جون | أزمة شرعية الحكم | موت مهين بالسم |
ريتشارد الثالث | الطموح الإجرامي | مقتل في المعركة |
هنري الخامس | الوطنية والبطولة | انتصار ثم موت مبكر |
تُظهر "الملك جون" تركيزًا غير مسبوق على تدخل الكنيسة، مما يجعلها نقدًا لاذعًا لفساد السلطتين الدينية والسياسية.
تأثير المسرحية وتقبلها النقدي
في العصر الحديث: تُعتبر من أكثر مسرحيات شكسبير السياسية نضجًا، حيث تتوقع صراعات أوروبا حول العلمانية والسلطة.
الانتقادات: اتُهمت بعدم الدقة التاريخية، خاصة في تصوير جون كضحية، بينما التاريخ يصوره كطاغٍ.
الإرث الأدبي: ألهمت مسرحيات مثل "الملك لير" (التي قدمت صورة أكثر قتامة لانهيار العائلة المالكة).
لماذا تظل "الملك جون" ذات صلة اليوم؟
رغم أنها ليست أشهر أعمال شكسبير، تقدم "الملك جون" مرآة لصراعات العصر الحديث:
أزمة الشرعية: كيف تكتسب الحكومات شرعيتها في عصر الشعبوية؟
دور الدين: هل يجب أن تتدخل المؤسسات الدينية في السياسة؟
الوطنية مقابل المصالح: تضحية فيليب تذكرنا بأن إنقاذ الوطن يتطلب أحيانًا تجاوز الانقسامات.
كما قال فيليب:
"الرجال قد يخونون، لكن الأرض تبقى وفية".
هذه المسرحية تحذر من أن انهيار السلطة يبدأ عندما تُستبدل القيم بالطموحات، وتنتهي عندما تنسى الأمة ولاءها لجوهرها
0 تعليقات